لم يكن من الصعب على قوات التحالف الدولي متابعة عملية “عاصفة الصحراء” وتوجيه ضربة قاضية إلى العراق لتنهي نظام صدام حسين في سنة1991، وذلك عندما أنهت عملية تحرير الكويت من احتلال الجيش العراقي بنجاح. لكن هذه القوات الدولية، وبناءً على اعتبارات الواقعية السياسية، أوقفت الحملة العسكرية الدولية بالرغم من مناشدات معارضي نظام حزب البعث العربي الاشتراكي لها، بضرورة متابعة القصف. ونتيجة لذلك استمر نظام صدام حسين في كتم كل صوت معارض، سجناً، أو قتلاً، أو تهديداً، حتى لحظة الغزو الأمريكي للعراق في 2003.
ولقد كان العالم مذهولاً آنذاك أمام مغامرة صدام التي أتت بعد حرب طاحنة ضد إيران، دامت نحو ثماني سنوات، إذ كان الجميع ـ بمن فيهم صدام حسين ـ يعلمون كم استنزفت الحرب ضد إيران من موارد العراق وخبراته البشرية. وتصاعدت ـ منذ تلك الفترة من أواخر الثمانينيات ـ الأصوات والحركات المعارضة للنظام البعثي داخلياً، خاصة بين صفوف الشيعة في الجنوب، والأكراد في الشمال. أما على المستوى الخارجي، فقد بدأت الصحافة الغربية تسلط الضوء على الفظاعات التي نجمت عن استخدام النظام العراقي للأسلحة الكيماوية، سواء خلال حربه ضد إيران، أو أثناء قمع معارضيه من العراقيين. لكن كل ذلك لم يغير من قرار التحالف الدولي بإيقاف العملية العسكرية مباشرة بعد إنهاء مهمة دحر القوات العراقية، وإجلائها عن الكويت.
هكذا اختار الغرب إبقاء صدام في موقعه، لكن مع تقليم أظافره، ورسم حدود طموحاته الاستراتيجية والتوسعية. وبالفعل، بقي صدام رئيساً بسلطة مطلقة، يحكم العراق الممزق والرازح تحت عقوبات اقتصادية، مع حظر الطيران فوق أجزاء واسعة من أراضيه.
انتظر الغرب اثني عشر عاماً حتى اتخذ قراراً بإنهاء نظام صدام. حدث ذلك عندما تغير السياق الدولي والإقليمي، خاصة بعد أن اهتز العرش الأمريكي بُعيْدَ هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، حيث برزت حاجة الولايات المتحدة لنصر يؤكد بقاءها في قمة هرم النظام العالمي. فكان اتخاذ قرار التدخل في العراق، والذي لم تجد الإدارة الأمريكية صعوبة في تبريره، حيث تم الغزو في 2003 بذريعة خرق النظام العراقي لقرار مجلس الأمن 1441 المتعلق بنزع أسلحة الدمار الشامل، إضافة إلى ذريعة لاحقة، تمثلت في تهمة ربط علاقات مع تنظيم «القاعدة»، الشيء الذي منح الشرعية لهذا التدخل العسكري في العراق.
بعد هذا الغزو الأمريكي، وإنهاء نظام البعث العراقي، انكشف واقع الشرق الأوسط على حقيقته، وبات واضحاُ أن طريقه نحو الديمقراطية والاستقرار ستستمر لسنوات طوال. فقد تحولت المنطقة إلى فوضى، فوضى عارمة، أكدت بأن رياح الديمقراطية ما تزال بعيدة. وقد أدرك العالم هذه الحقيقة بمن فيهم غالبية الشرق الأوسط، والغرب أجمع.
كما أن العالم كان يدرك بأن هذه الفوضى هي بيئة خصبة للتطرف والإرهاب. وبالتالي لا يجب أن تترك الأمور على سجيتها، حتى لا تفرز ما قد تفرزه، إذ أن السياسات الدولية لا يستقيم عملها وهذا الوضع المنذر بالكارثة. هكذا بدت الحاجة إلى التغيير ملحة، تغيير مدروس ومخطط له بإحكام، غاياته تعظيم المصالح. وبالتالي فإن عبارات من قبيل “خيانة” و”خذلان” و”حرية الشعوب في اختياراتها” ليست أولويات في اعتبارات صناع السياسات الدولية.
اما بالنسبة للحالة السورية، فنظام بشار الأسد نظام عسكري ديكتاتوري شمولي، وهو ليس الحليف الأمثل بالنسبة للدول الغربية. لكن ما أفرزته هذه الحالة من عسكرة وأسلمة وفوضى مهددة لاستقرار المنطقة برمتها، يحتّم على الغرب إعادة التفكير في خياراته واحتمالات المستقبل السياسي لسوريا.
وعند الحديث عن البدائل لهذا النظام الحالي، فإن المعارضة السورية بشكلها الراهن ليست هي ما ترغب به الدول الكبرى. فتلك التشكيلة من الجماعات المقاتلة على أرض الميدان، تحوي بين صفوفها الكثيرين ممن لا يعترفون بقواعد اللعبة السياسية والتوازنات القائمة. والأكثر من ذلك، أن تلك الجماعات لا تتبع جسماً سياسياً واحداً يمكن الوثوق به، أو ترويضه لاحقاً، مثلما كان الحال سابقا مع نظام الأسد الذي أثبت طيلة سنوات حكمه السابقة، التزامه بتلك القواعد ـ على الرغم من صراخه المتكرر وتصريحاته النارية وتبنيه لخطاب المقاومة والممانعة. أضف إلى ذلك، انزياح الرأي العام في الغرب نحو قبول استمرار الأسد، ورفض دعم معارضيه. وقد يفيد هنا، التذكير بأن 7 في المائة فقط من الأمريكيين، يعتقدون أن بقاء الأسد في الحكم يضر بمصالح بلدهم. ثم لا ننسى الطرف الثالث الذي أفرزته الحرب في سوريا، وهو تنظيم «داعش» الذي تجرأ وأقدم على مغامرة انتحارية في قلب الشرق الأوسط، فأسس لمشروع لا يعترف باللعبة السياسية القائمة، ولا حتى بالقواعد الأخلاقية السائدة التي يؤمن بها المجتمع الدولي. وهكذا فجميع البدائل السابقة تبدو غير جيدة. لكن بعضها أقل سوءاً من غيره.
وبعد استبعاد تنظيم «الدولة الإسلامية» ، يبقى فقط النظام ومعارضوه. ويسود حالياً شبه يقين بأنه لا يمكن تحقيق انتصار ساحق للمعارضة على الأسد. فذلك الانتصار كان بالإمكان نيله، لو كان هناك دعماً من خلال تدخل إقليمي، بل كان بالإمكان حسم الموقف نهائياً ضد الأسد، لو أن التدخل الإقليمي قد تم قبل أن ترمي روسيا بثقلها عسكرياً في الأراضي السورية لدعم نظام الأسد، دون أن تجد أي اعتراض دولي. أما الحديث عن تدخل سعودي أو تركي في الوقت الحالي، فذلك سيسهم فقط، في تعقيد الصورة، وإطالة أمد الحرب الدائرة.
وإذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه، فلا يوجد أي مانع يمنع الأطراف الدولية من فسح المجال للنظام السوري، ليستعيد السيطرة على الكثير مما خسره! فنظام الأسد بات ضعيفاً، ومرتهن الإرادة أكثر من أي وقت مضى. وإذا ما أعاد بسط سيطرته سيبقى منشغلاً بترتيب ملفاته الداخلية. فاستمرار أسد منزوع الأنياب والمخالب، ليحكم بلداً مدمراً ومجتمعاً منهكاً ومتشظي البقاع، قد يكون السيناريو الأكثر واقعية في ظل المعطيات الحالية. إلا أن ذلك لا يعني أن الأسد سيصبح فجأة حليفاً للغرب. بل إن خياراً كهذا، سيمنح الغرب مزيداً من الوقت، لضبط إيقاع التحضير لما بعد الأسد، بما يعيد إلى الأذهان سيناريو عراق ما بعد حرب الخليج الثانية.
من خلال هذه الأوضاع الراهنة اليوم، يبدو أن إسقاط الأسد ليس في مصلحة غالبية الفاعلين الدوليين. لكن قد تتغير الظروف في سوريا بعد عدة سنوات، أو قد يحصل مستجد في عالم العلاقات الدولية، يجعل من إزاحة الأسد ممكن التحقق، من دون أن ينفي ذلك احتمال انخراط الأسد في تحالفات إقليمية ودولية، قد تضمن له بقاءً أطول، أو قد تظهر معارضة سورية ذات خبرة سياسية ودبلوماسية، تتبنى خطاباً مختلفاً، يراعي موقع سوريا وطبيعة العلاقات الدولية والإقليمية القائمة.
وبعيداً عن النظرة الحالمة ولغة التمنيات، تبقى السيناريوهات المحتملة تتأرجح بين استمرارالأخذ والرد في الحرب الدائرة على أرض الواقع، وبين استمرار الأسد في حكم سوريا كما حكم صدام العراق في التسعينيات، محاصَراً دولياً، وممسِكاً حكماً بيد من الحديد والنار. وفي كلتا الحالتين فإن الشعب السوري هو من سيدفع الثمن دماً وجوعاً وقهراً وتشريداً. لكن مادام الجزم بمسارات الأحداث غير ممكن، لاستحالة الإحاطة بجميع المدخلات في الحقل السياسي، فإن تلك الصورة القاتمة ليست حتمية، وإن جاءت نتيجة قراءة موضوعية للخبرة التاريخية، وباستخدام مفردات الواقعية السياسية التي هي لغة العلاقات الدولية.
وبعد كل ما سبق، فإن سيناريو بناء مستقبل مشرق بالعدالة والحرية لشعوب المنطقة؛ يبقى قائم الحظوظ، شريطة دعم إرادة التغيير بمزيد من الوعي والمسؤولية والتخطيط الاستراتيجي الجيد.
عزام القصير
معهد واشنطن