يبدو من سياق تطورات الأحداث أن سوريا ستشكل القاعدة الأولى لمشاريع تقسيم المنطقة بسياق مشترك مع جناحها الشرقي العراق الذي أوصله الاحتلال إلى حافات الانهيار التام لمنظومة الدولة المدنية وتسييد الطائفية ومفرداتها الحاكمة، وهذه هي القاعدة الحيوية للوصول إلى حالة التقسيم. وهدف تقسيم سوريا والعراق أولا، ثم المنطقة لم يعد مزاجا فرديا أو أفكارا افتراضية لباحثين أو مفكرين أميركيين أو مراكز دراسات، مع أن جميعها يصب في مؤسسة القرار الأميركي. ففي الأيام الأخيرة تزاحمت التصريحات خصوصا من قبل القادة العسكريين الذين يتخفى السياسيون وراءهم. ولو مزجنا قائمة التصريحات المتتالية مع بعضها على طريقة لعبة الورق، لاستنتجنا حقيقة أن مشروع التقسيم قادم. فالسياسي الأميركي الأكثر جرأة جون بايدن لم يطلق عام 2006 تصريحا وإنما قدم مشروعا للكونغرس حظي بموافقته، وقبله بعقد من الزمن تحدث نائب رئيس مجلس الاستخبارات في السي آي إيه، غراهام فولر، عن نهاية العراق عام 2002. ورسم الجنرال الأميركي المتقاعد رالف بيترز خارطة جديدة للشرق الأوسط في تقريره الذي نشرته عام 2007 مجلة “آرمد فورسز جورنل”، ووفق الخارطة تقوم دولتان شيعيتان عربية وفارسية، وتمتد الدولة الشيعية العربية من جنوب العراق إلى الجزء الشرقي من السعودية والأجزاء الجنوبية الغربية من إيران.
كما يقسم الجنرال الأميركي في خارطته السعودية إلى دولتين: دولة الأماكن المقدسة، ودولة أخرى سياسية يقتطع منها أجزاء لصالح دول مجاورة، ويعتقد بيترز أن الحل المناسب لوقف إراقة الدم في المنطقة هو ألا تبقى الطوائف المختلفة والمتباينة مع بعضها.
كما توقع بيتر غالبيرت نهاية العراق في كتابه المهم بنفس العنوان، وأهمية توقعاته أنه شهد تفكيك يوغسلافيا عندما كان سفيرا لأميركا في كرواتيا، ودخل إلى العراق مع طلائع الاحتلال الأميركي وزاره كصحافي وكتب العشرات من المرات يقول “الحل الواقعي لإنهاء مشاكل العراق هو في إحداث طلاق هادئ بين المكونات الاجتماعية المتنافرة والمتحاربة”. وقبل هؤلاء جميعا قال أبوهم الروحي هنري كسينجر “يجب إنشاء دولة خلف كل بئر نفط” وهو الذي زار موسكو قبل أيام لبحث خرائط المستقبل.
لقد اتفق كل من مديري الاستخبارات الأميركية والفرنسية في مؤتمر بواشنطن حول الاستخبارات في المنطقة في نهاية أكتوبر 2015 على أن “الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة”، وأكدا على أن دولا، مثل العراق أو سوريا، لن تستعيد أبدا حدودها السابقة.
كما قال مايكل هايدن المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في تصريحات لصحيفة لو فيغارو الفرنسية، “إن كلا من سوريا والعراق سوف يختفيان قريبا من خارطة الشرق الأوسط، وأن الوطن العربي سينخفض إلى 20 دولة بدلا من 22 دولة، في السنوات القليلة المقبلة”، ونوه الجنرال الأميركي راي أوديرنو بأن تقسيم العراق يمكن أن يكون الحل الوحيد. والملفت أن يتحدث جون كيري وزير الخارجية الأميركي في شهادته أمام الكونغرس قبل أيام عن الخطة الأميركية “ب” حول سوريا والتي تتضمن تقسيمها، حيث أكّد أنه من الصعب إبقاء سوريا موحّدة إذا فشل اتفاق وقف إطلاق النار، وتعقب موسكو على أنها تريد إقامة “الفيدرالية” في سوريا، والفدرالية في السياق العربي تعني التقسيم والمحاصصة الطائفية وانهيار الدولة الوطنية وصناعة حالة انقسام اجتماعي جاد ينتج دولة فاشلة كما في التجربة الوحيدة في العراق بعد الاحتلال الأميركي.
وتبدو الصورة أكثر وضوحا، إذا تم تركيب تصريحات كيري وبرينان وباجوليه، على ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون، ورام بن باراك مدير عام وزارة المخابرات الإسرائيلية، خلال مشاركتيهما في مؤتمر ميونخ قبل أسبوعين، بأن “التقسيم على أسس طائفية وعرقية هو الحل الوحيد الممكن بالنسبة إلى سوريا”. أما العراق فعملية التقسيم الطائفي والعرقي متواصلة فيه بطريقة منهجية، منذ الغزو الأميركي عام 2003 في تعبير واضح عن المصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية وهي تعزز النظرية الدينية-التوراتية، التي أقيمت على أساسها إسرائيل.
ولا يمكن مخالفة جميع هذه التوقعات والتبشيرات بالمرّ القادم والقول إن التقسيم غير ممكن انطلاقا من نوايا طيبة لدى النخب الثقافية من العروبيين والوطنيين العراقيين والسوريين الذين لا حول ولا قوة لهم غير الكلام، فالعالم اليوم ليس ناديا ثقافيا، هو عالم متوحش لا تهمه الدماء إلا حين تتحول إلى قلم تخط به الحدود الجديدة للمنطقة.
الأميركان لا يستعجلون الأحاديث العامة، وقد يحورونها وفق السياق الدبلوماسي الناعم لكي لا يزعجوا صديقتهم الاستراتيجية في المنطقة، المملكة العربية السعودية، والتي تعلم بأنها معنية بهذا المشروع التقسيمي الكبير. أما الروس فتهمهم الإعلانات الكثيرة والمبالغ فيها أحيانا، لأنهم يبحثون عن إثبات الذات في المنطقة، ولو كان على حساب أهلها. ومندفعون كثيرا للدخول في المنطقة على طريقة “السيرك الروسي” بعد غياب وتقهقر في هزيمتهم بأفغانستان على يد التحالف الأميركي السعودي، فقد قفز بوتين، ابن المخابرات، بمكر وثعلبية محاولا جعل العالم ينسى تلك الهزيمة التاريخية، لكي يبني مجدا اندثر على وقع سياسة باراك أوباما الرخوة، وليستخرج خزين الخردة النارية ويلقيها على أطفال ونساء سوريا في أسوأ استخدام وأقذر عملية يشهدها العالم بعد مذبحة “سربرنيتشا”، وبذلك يشارك الروس الأميركان في الجريمة التاريخية.
ولكن أي تقسيم هذا الذي سيصبح مشهد الغد؟ وما هي قواعده؟ هل قامت الحرب وانتهت فصولها العسكرية لتبدأ صفحة تقسيم المصالح وترسم الحدود الجديدة للشرق الأوسط على أعقاب حروب النيابة؟ فمقاييس حروب القرن الماضي على حجم التضحيات البشرية لا يمكن تكرارها أو القياس عليها، حركة الموت الجنوني المرعب في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا تقود إلى احتمالية التقسيم الطائفي في كل من العراق وسوريا أولا، والحالة أشبه بمشهد درامي يديره مخرج محترف ليعطي النتيجة غير المتوقعة أمام الجمهور.
المشكلات التي تواجه تنفيذ خرائط “حدود الدم”، بحسب تعبير مسعود البرزاني، هي فنية تتعلق بترضية مصالح الحليفين، تركيا وإيران، فتركيا لا يرضيها أن تخسر مكانتها في المنطقة في سوريا والعراق، والتقسيم سيضر بمصالحها بعد تقوية الأكراد وكذلك إيران الباحثة عن هيمنة في العراق والخليج.
في العراق تم الشغل بعناية على تحقيق التقسيم. وأوباما الذي سينهي فصول التحضيرات لهذا المشروع في نهاية عهده هو الذي وفر جميع الأدوات لإيران لكي تحرث ديموغرافية العراق بالدم العراقي بأدوات همجية منذ العام 2003 ولحد اليوم، عبر فرق الموت عام 2004 وعمليات التهجير عام 2006، ثم استثمار بيئة احتلال داعش لأراضي المحافظات السنية لكي تنفذ خارطة التغيير الديموغرافي تحت شعار تصنيف المجتمع العراقي ما بين عربي سني وهابي ورافضي شيعي، وليصبح التقسيم حاجة ومطلبا. وفي سوريا بعد حرب الموت لخمس سنوات أصبح الحديث المحلي عن “سوريا المفيدة” كصدى للتقسيم الطائفي.
واضح أن القاعدة المهمة لمشروع التقسيم في العراق هي الأكراد وسيكون لديهم أفضلية في تطبيقات المشروع، وما يحصل من تطورات ميدانية للقوى الكردية السورية المسلحة بدعم أميركي وروسي يصب في اتجاه قيام إقليم كردي يشمل العراق وسوريا. الأكراد من حقهم إنشاء دولتهم التي تأخرت مئة عام ولماذا ترفض من قبل العراقيين أو السوريين؟ أما السياسيون الشيعة فمنذ العام 2005 حين جرت مناقشة وثيقة دستور العراق طالب عبدالعزيز الحكيم بأن يكون للشيعة إقليمهم في محافظات الوسط والجنوب. لكن مشكلتهم اليوم هي ما ستقدمه إيران لإقليم شيعي خاص بها مقابل إقليم شيعي عراقي.
سياسيو العرب السنة وحدهم يعيشون الضياع وقد يقويهم عرب سوريا السنة إذا ما رسمت خارطتهم إلى جانب الأقليتين العلوية والكردية. إذن التقسيم قادم بعد أنهار الدم، وحدود خرائطه بلا مبالغة تصنعها دماء الأبرياء.
ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية