تقاطع الطرق التركي الخطير

تقاطع الطرق التركي الخطير

أكراد%20يحتجون%20على%20سياسات%20الحكومة%20تجاههم%20في%20تركيا%20-%20(أرشيفية)

تقف تركيا الآن على تقاطع طرق خطير، بعد أن غرقت في المسار الدموي لـ”تغيير النظام” في سورية، والانجراف أعمق إلى النزاعات مع الأكراد وإيران وروسيا. فهل يستطيع الرئيس إردوغان العودة إلى المسار الأكثر سلمية الذي كان قد انتهجه في السابق؟
*   *   *
ما الذي تحتاجه تركيا للتغلب على فشل سياستها الخارجية الراهنة، والذي يعد من أسوأ ما شهده التاريخ التركي الحديث؟ المفارقة في كل هذا هي أن المسؤولين مباشرة عن هذه الفوضى -فريق رجب طيب إردوغان (الرئيس الحالي) وأحمد داود اوغلو (وزير الخارجية السابق ورئيس الوزراء الحالي)- هو بالضبط الفريق الذي كان قد قطع قبل عقد مضى خطوات استثنائية في اتجاه خلق سياسة خارجية خلاقة وناجحة.
فما مضى خطأ؟ وكيف تستطيع أنقرة الآن التسلق إلى خارج الحفرة العميقة التي حفرتها بنفسها؟ الجواب بسيط: يجب على إردوغان وأوغلو العودة الى مبادئهما الأصيلة الناجحة التي كانا قد تبنياها قبل عقد، والتي تم التخلي عنها الآن بتهور. ولعل المهمة الأكثر إلحاحا بشكل جامح، هي أن تخرج أنقرة من سورية.
لقد فعلت سياسة تركيا السورية في تدمير موقف تركيا الدولي أكثر بكثير من أي عامل مفرد آخر. ولكن دعونا نكُن واضحين: إن أنقرة ليست مسؤولة بشكل رئيسي عن الأزمة الحالية في سورية. والمسؤول الوحيد هو الرئيس السوري بشار الأسد. لكن إردوغان فاقم المشكلة كثيراً وشجع العناصر الجهادية المتطرفة التي تقاتل في سورية، وساعد على تأجيج العواطف الطائفية، وأساء معاملة الأكراد السوريين.
وقد ألحقت كل هذه السياسات الضرر بالعلاقات مع البلدان التي تهم تركيا: إيران والعراق وروسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجتمعات الكردية -والعلاقات مع سورية نفسها بطبيعة الحال. وبدلاً من ذلك، أقامت أنقرة ائتلافا مزدوجاً وخطيراً وغير مثمر مع العربية السعودية. كما خلقت مواجهة ضارة مع روسيا، والتي تبدو تركيا هي الطرف الخاسر فيها مسبقاً.
ما الذي يجب أن تفعله تركيا الآن؟
1 – الإقرار بحقيقة أن الأسد لن يسقط في وقت قريب، حتى بالرغم من أن ذلك كان افتراضاً منطقياً بعد اندلاع الانتفاضة ضده في العام 2011. ويجب على تركيا التخلي عن الجهد المهووس لإسقاطه. وتعتقد روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين ومصر، وحتى أعداد ضخمة من السوريين -محقين- بأن ما سيأتي بعد الأسد يرجح أن يكون أسوأ بكثير منه. ولدى تركيا القليل لتكسبه والكثير لتخسره من الاستمرار في هذا الكفاح غير المثمر.
2 – العمل مع القوى الرئيسة للتوصل إلى حل سلمي في سورية: العمل مع الولايات والمتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي ورفض رؤية بعض الدول بتشكيل جيش سني دولي ضخم يستولي على دمشق.
3 – العودة إلى سياسية أنقرة المبكرة بتجنب الصراع الطائفي في المنطقة. وتتبع تركيا المذهب السني في سوادها الأعظم، لكن لديها مواطنون شيعة وعلويون (شبه شيعة). ولم تكن تركيا قد سعت حقاً لأن تكون رائدة الإسلام السني لمئات عدة من الأعوام. وفي الحقيقة، حظيت تركيا بالاحترام والنفوذ عندما سعت للتصرف بشكل غير متحزب بين مجموعات السنة والشيعة قبل عقد. ويجب أن لا تنحاز إلى فريق الآن.
4 – العمل لتحسين علاقاتها مع إيران. فدور إيران في المنطقة ينمو بشكل ثابت. وهي حيوية من الناجية الاستراتيجية والاقتصادية بالنسبة لتركيا. وهي ديمقراطية قيد التصنيع. وقد تضررت العلاقات بشكل خطير عندما مضت تركيا للإطاحة بالأسد وهو حليف لطهران.
5 – العمل عن كثب مع العراق لمساعدته في التغلب على المشاكل الطائفية ليس ببساطة كداعم للسنة في العراق، ولن تستفيد تركيا من عراق مقسم. كما أن إيران لا تستفيد أيضاً، وهي تفضل بسط نفوذها في عراق موحد ومستقر، وتجدر الاشارة إلى أن تركيا مهيأة تماماً للمساعدة في التوصل الى مصالحة طائفية في العراق بفضل علاقاتها الاقتصادية الممتازة مع بغداد، ومصلحتها المشتركة في رفاه كردستان العراق.
6 – التراجع عن العلاقات الاستراتيجية مع بعض الدول الخليجية. فتلك الدول ترفض كل شيء تدعي تركيا بأنها تحترمه: الإسلام المعتدل، التسامح الديني والعرقي، واللاطائفية، وعدم التدخل، والديمقراطية والأسواق المعولمة، والاجتذاب الثقافي والقوة الناعمة. ومع ذلك تسعى تلك الدول إلى جعل رائد سني وحليف ضد الأسد وضد إيران وضد الشيعة العراقيين والشيعة الزيديين في اليمن.
7 – التعاون مع الدول الخليجية والعربية الأخرى -طالما كان ذلك على أسس غير طائفية. ومن الممكن أن تكون الروابط مع قطر منتجة بشكل خاص.
8- منح أولوية لاستعادة العلاقات التركية مع روسيا. والتوقف عن محاولة جر حلف الناتو إلى مواجهة غير حكيمة مع روسيا. والحقيقة أن دخول موسكو إلى المعادلة السورية قد ألغى خيارات أنقرة كافة وحرية عملها هناك. ولا تستطيع أنقرة هزيمة روسيا دبلوماسياً. وبالإضافة الى ذلك، وسواء أحببنا ذلك أم لا، فإن موسكو تتمتع بموقف جيد لصنع تسوية سياسية في سورية. وإذا ما أحدثت تركيا التحولات السياسية المذكورة أعلاه، فإن علاقاتها مع موسكو ستتحسن بشكل أتوماتيكي.
9 – تكريس الأولوية لإقامة علاقات وثيقة مع كل العناصر الكردية في المنطقة. فتركيا من خلال حكمة سياساتها السابقة كانت قد كسبت الأكراد العراقيين كحليف وثيق. لكن إردوغان سمح لتقاربه السابق مع حركة القوميين الأكراد في تركيا وحزب العمال الكردستاني بالانهيار. ورفضت أنقرة التعامل مع الحركة الكردية السورية، وهي من المجموعات المقاتلة الفعالة القليلة ضد “داعش” في سورية. وقد تنزلق تركيا إلى أتون حرب عامة ضد الأكراد، والتي ربما تكون قادرة على كسبها في الميدان، لكن من المؤكد أنها ستخسرها سياسياً.
إن نمو القوى الكردية في المنطقة برمتها هو حقيقة واقعة، وما يزال ذلك النمو يأخذ منحى تصاعدياً على مدار السنوات الـ25 الماضية، مستفيداً بشكل ملحوظ من كل نزاع اقليمي، ومحققاً بذلك حكماً ذاتياً واعترافاً عالمياً بحكم الأمر الواقع. وإذا كانت أنقرة مصممة على وقف التقدم الكردي في اتجاه حكم ذاتي أكبر -في أي مكان في المنطقة – فإنها سوف تنفر الأكراد فحسب؛ وفوق كل ذلك سيسارع هذا الموقف في ظهور مطالب كردية سياسية واقتصادية وثقافية.
ولن تفشل الجهود لوقف هذه العملية من الصعود الكردي فحسب، لكنها ستضمن علاقة أكثر بشاعة وخطورة بالنسبة لتركيا وكل الواقع الإقليمي الكردي في المستقبل.
ومن المفارقة أن معظم الأكراد سيتطلعون حتماً إلى تركيا كحامٍ إقليمي وراعٍ اقتصادي ومستقطب ثقافي إذا عوملوا بطريقة صحيحة، ومنحوا حكماً ذاتياً أوسع -طالما ظلت أنقرة لا تنفرهم. فإلى أين سوى تركيا سيوجه الأكراد أنظارهم من أجل روابط جيوسياسية قيمة في المنطقة؟
تستحق أنقرة الإشادة على تحركها السخي والإنساني لاستيعاب أكثر من 2.5 مليون لاجئ سوري في داخل تركيا. وعندما يبدأ العنف المحلي السوري في التوقف في نهاية المطاف، سيعود العديد من السوريين إلى الوطن، لكنهم لن يعودوا كلهم. وقد يشكل ذلك مشكلة لتركيا، لكنه يمكن أن يعود بالفائدة عليها أيضاً.
لقد اشتمل التقليد العثماني على دور مهم للعرب في داخل الحكم الإمبريالي. واليوم، تستطيع تركيا أن تقوى وتغنى من خلال استيعابها لمواطنين سوريين أتراكاً جدداً يستطيعون تيسير الدخول التركي إلى العالم العربي. فتركيا، بعد كل شيء، هي بلد متعدد القوميات أصلاً؛ حيث توجد أعداد ضخمة من المجموعات العرقية الأخرى من القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان. ومن شأن صوت عربي أقوى أن يضيف إلى هالة ومكانة تركيا الإقليمية، بالإضافة إلى وصولها الاقتصادي ومهاراتها.
وأخيراً، يجب على تركيا التعاون مع واشنطن حيثما تستطيع، وإنما فقط بالمدى الذي تكون فيه سياسات واشنطن الخاصة في المنطقة حكيمة ومنتجة. ومنذ 11/9 (وقبل ذلك بكثير) ما تزال السياسات الأميركية في المنطقة سيئة وكارثية وهدامة على نحو كارثي. ويجب على أنقرة أن لا تتعاون.
وعلى الرغم من ذلك، قلل الرئيس أوباما في الأوقات الأخيرة من مستوى التدخل والعدوانية الأميركيين، وخاصة الآن في سورية. وإذا استطاعت أنقرة النهوض بكل هذه التحولات في سياستها، فإن علاقاتها مع واشنطن ستتحسن كثيراً، على افتراض أن الرئيس الأميركي التالي سيقارب الشرق الأوسط بحكمة -لكن ثمة النزر القليل مما يضمن ذلك.
كل هذا يفترض أيضاً أن إردوغان سيتصرف بحكمة ولا يضحي بمصالح السياسة الخارجية لتركيا في سبيل إشباع اتجاهه المتهور والتقسيمي نحو حيازة سلطة شخصية أكبر. ولا تبدو اهتمامات إردوغان الشخصية منسجمة مع المصلحة القومية التركية.
كان إردوغان قد تبنى ذات مرة وطبق مثال أتاتورك الحكيم: السلام في الوطن والسلام في الخارج. لكنه الآن تخلى عن تلك المبادئ ولم يخرج بأي من الأمرين.

ترجمة: عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية