تتسم السياسة الأمريكية تجاه الأزمة السورية بعدم الوضوح، وهو أمر يعكسه بشكل كبير تعدد التوجهات التي تُشير إليها تصريحات المسئولين الأمريكيين بشأن الأزمة في سوريا، ومواقفهم المختلفة من أطراف هذه الأزمة. ففي البداية، تزايدت التصريحات التي تندد بممارسات نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وتؤيد مطالب الاحتجاجات الشعبية، وبلغت حد مطالبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الرئيسَ السوري بشار الأسد بالرحيل، بعد أن فقد شرعيته لدى الشارع السوري.
غير أن هذه التصريحات لم تستمر على هذا النحو مع تصاعد حدة الأزمة وطول مدتها؛ حيث تتركز التصريحات الأمريكية حاليًّا حول ضرورة التفاوض مع النظام السوري من أجل إجراء عملية انتقال سياسي في سوريا، وهو ما دعا إليه وزير الخارجية جون كيري، في حين جاءت تصريحات جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA”، حول أن “الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد انهيار الحكومة السورية ومؤسساتها في مواجهة إمكانية سيطرة الجماعات الإسلامية المتطرفة”، لتشير إلى توجس أمريكي من مآلات الصراع في سوريا، لا سيما مع عدم توافق القوى الدولية على السبيل الأمثل للتعامل مع تداعيات تلك الأزمة.
رأى عام منقسم:
انعكس عدم وضوح وثبات الموقف الأمريكي الرسمي من الأزمة السورية على توجهات الرأى العام الأمريكي الذي يتسم عادةً بعدم الاهتمام بالقضايا الدولية، فظهر انقسام واضح في توجهات الشارع الأمريكي إزاء سبل التعامل مع الأزمة في سوريا، وهو ما سجلته نتائج استطلاع للرأى أجرته مؤسسة “جالوب للأبحاث”، خلال الفترة من 3 إلى 7 فبراير 2016، ونشر على موقعها في 17 فبراير 2016، حيث عبر 34% من المستطلعة آراؤهم عن رغبتهم في أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية منخرطة في حل الأزمة عسكريًّا، مقابل 29% يرون أنها بالفعل منخرطة في جهود حل الأزمة، بينما طالب 30% بأن تقلل بلادهم من الانخراط في جهود تسوية الأزمة.
وقد كشفت النتائج أن الجمهوريين هم الأكثر حرصًا على ممارسة بلادهم دورًا مهمًّا في حل الأزمة السورية، حيث عبر 49% منهم عن ذلك، مقابل 30% للمستقلين، و26% للديمقراطيين، كما يعد الجمهوريون أيضًا أقل فئة ترى أن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بدور مناسب حاليًّا، وذلك بنسبة 22%، مقابل 29% للمستقلين، و36% للديمقراطيين. وبالتالي تأتي رغبة التقليل من انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في حل الأزمة لدى الجمهوريين ضئيلة حيث سجلت وفق نتائج الاستطلاع 23%، بينما كانت نسبة المستقلين والديمقراطيين 33% و34% على التوالي.
كما بدا أن ثمة انقسامًا في توجهات الرأى العام حول التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، كان لافتًا أنه توافق مع إبداء أغلبية كبيرة من الرأى العام – بلغت 80%- نظرة سلبية لسوريا، مقابل 12% فقط ينظرون لها بشكل إيجابي، مع ملاحظة أن النظرة السلبية لدى الأمريكيين لسوريا قد ارتفعت، حيث كانت 74% في استطلاع مماثل خلال عام 2015، وكانت نسبة الجمهوريين هى الأكبر فيما يتعلق بالنظرة السلبية إلى سوريا حيث بلغت 90%، في حين جاءت نسبة المستقلين والديمقراطيين على الترتيب: 77%، و76%. فيما تجدر الإشارة إلى أن غالبية قدرها 58% من الأمريكيين يرون أن الصراع الحالي في سوريا يُشكل تهديدًا خطيرًا للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
وتتسق هذه النتائج -إلى حدٍّ كبير- مع نتيجة استطلاع آخر أجراه “جالوب” ونشره على موقعه في 22 فبراير 2016، أشار إلى أن سوريا تأتي في المرتبة الثامنة بين أكثر الدول عداءً للولايات المتحدة الأمريكية من وجهة نظر الرأى العام الأمريكي بعد كل من كوريا الشمالية، وروسيا، وإيران، والصين، والدول التي ينشط فيها تنظيم “داعش”، والعراق، وأفغانستان.
ويُمكن القول إن هذه النتائج تأتي في إطار العديد من العوامل المؤثرة ليس فقط على توجهات الرأى العام والشارع الأمريكي وإنما أيضًا على الموقف الأمريكي من الأزمة. فعلى صعيد الرأى العام الأمريكي، بدا واضحًا أن ثمة اهتمامًا ملحوظًا بتصاعد أزمة اللاجئين السوريين، والانتهاكات التي يرتكبها النظام ضد المعارضة، وتزايد نشاط تنظيم “داعش” في العديد من المدن السورية، فضلا عن صور قتل عناصر التنظيم لبعض الصحفيين الأمريكيين، إلى جانب حرص النظام السوري على تأسيس علاقات وثيقة بأكثر الأنظمة عداءً للولايات المتحدة (روسيا وإيران). وقد انعكس الانقسام في توجهات الرأى العام الأمريكي إزاء الأزمة في عدم توافق وجهات نظر المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية، بل وعدم تقديمهم رؤيةً واضحةً للدور الأمريكي في الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية للأزمة.
أما على الصعيد الرسمي، فيمكن القول إن إدارة الرئيس باراك أوباما أبدت اهتمامًا خاصًا بتصاعد نشاط التنظيمات الجهادية في سوريا مثل “داعش” و”جبهة النصرة”، الأمر الذي ساهم في تغير الأولوية الأمريكية، حيث أقدمت واشنطن على تشكيل تحالف دولي (مكون من 64 دولة) لمحاربة “داعش” في سوريا والعراق؛ ووضعت الإدارة الأمريكية نفسها أمام خيارات محدودة بين محاربة تنظيم “داعش” أو النظام السوري، حيث حرصت في النهاية على عدم التدخل بشكل حاسم لإسقاط الأسد خشية من أن يؤدي ذلك إلى سيطرة التنظيمات الإرهابية على الدولة. ومن دون شك، فإن الوصول للاتفاق النووي مع إيران في 14 يوليو 2015 ورفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران في 16 يناير 2016، كل ذلك أدى في النهاية إلى حدوث تحول في السياسة الأمريكية باتجاه منح الأولوية للحرب ضد الإرهاب في سوريا والعراق.
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية