عادت الأزمة الليبية للمربع الأول بعد أن فشل البرلمان المنتخب تمرير حكومة فايز السراج. وفي ظل حديث عن استعداد غربي للتدخل العسكري في ليبيا، فإن المستقبل ينذر باستفحال الأزمة، وينذر بمصير أكثر سواداً للدولة الليبية ما لم يرتق الليبيون أنفسهم إلى مستوى استحقاقات الرهانات التاريخية المطروحة عليه. وهنا نتساءل، ألا يطمح الليبيون إلى إنجاز خطوة سلام ستكون فارقاً في تاريخ المنطقة؟ ألا يطمح الليبيون إلى نيل جائزة نوبل للسلام، فيكتبون تاريخهم المعاصر بصفحات ناصعة؟ أَو لم يشبعوا بعد من التقاتل والتحارب؟
لابدّ من النظر إلى الأزمة الليبية، من عدة جوانب حتى نفهم حجم التعقيدات التي تحول دون التوصل إلى اتفاق سلام شامل. فهناك عدة عوامل تجعل الفرقاء غير قادرين على فهم واقعهم وغير قادرين على استيعاب الواقع الإقليمي والدولي. ويمكن أن نقرأ جملة هذه العوامل في النقاط التالية:
النقطة الأولى، تتعلق بالثقافة السياسية للليبيين، فهم عاشوا في ظل حكم توليتاري، انعدمت فيه أدنى مقومات الحياة السياسية والمدنية وذلك على أكثر من أربعة عقود كاملة. فأجيال كاملة من الليبيين، لا تعرف معنى حياة مدنية وسياسية، ولم تتدرب على النقاش وإبداء الرأي والخوض في معارك انتخابية، وطبعاً لم تكن لها تواصل بالمنظمات الدولية إلا ما تسمح به الحكومة في ذلك الوقت. وهنا يمكن القول إن الليبيين، لم يكتسبوا الخبرات السياسية اللازمة التي تجعلهم يحسنون التعامل مع الأزمات التي تعترضهم في إدارة الشأن الداخلي.
في حقيقة الأمر لم يمارس الليبيون مبدأ «الديمقراطية واجبة اليوم، من أجل صنع قيادات الغد». ولذلك لم تكن هناك قيادات مؤثرة في المشهد الليبي وقادرة على جمع الليبيين في صف واحد لبناء، من أجل بناء دولتهم الجديدة، عقب سقوط النظام.
النقطة الثانية تتعلق بموقع ليبيا الجيوسياسي، فهذه الدولة اتخذت في عهد معمر القذافي جملة من المواقف، جعلتها تعيش العزلة الدولية لعدة عقود، وباستثناء بعض الانفتاح على الدول الإفريقية أو العربية التي اتسمت بكثير من التشنج وحتى القطيعة في مناسبات كثيرة، فإن ليبيا كانت شبه معزولة طيلة تلك المرحلة، وخلق هذا نوعاً من التأخر في كيفية التفاعل مع المجموعة الدولية، ووضع الليبيين بعد سقوط النظام، في وضع الطرف الأضعف غير المدرك لحقيقة لعبة المصالح الدولية ومدى تأثيراتها في دولتهم وفي المنطقة بصفة عامة. وهنا يمكن التأكيد أن الليبيين ونتيجة للسياسات الخاطئة التي انتهجت في سنوات حكم معمر القذافي، لم يتمكنوا من بناء أحلاف دولية قوية، تكون سنداً لهم عند الحاجة. ولذلك كان التدخل في الشأن الليبي عنيفاً في أكثر من مرة، لأن ليبيا لم يكن لها في المحفل الدولي قوى تقف إلى جانبها وتمنع عنها شرور أطماع القوى المتربصة بهذا البلد الغني بالثروات. ولكل ذلك كان الليبيون هم الضحايا في نهاية الأمر، ويمكن أن نذكر هنا، التدخل الأمريكي في ليبيا في عام 1986، ثم التدخل القوي لإسقاط النظام، في سنة 2011، والاستعداد للتدخل العسكري مرة أخرى في الأيام أو في الأشهر القليلة القادمة.
النقطة الثالثة يمكن تلخيصها، في أن حالة الانغلاق السياسي، ولّدت بالضرورة حالة انغلاق اجتماعي، إذ عجزت الدولة عن صهر المجتمع الليبي في أتون وحدة تقوم على المواطنة الكاملة والمساواة والعدالة. وعندما لم يرتق الشعب إلى مرتبة المجتمع بمفهومه الحضاري الشامل، فإنّ البديل كان تقوية الانتماءات القبلية والإثنية، وهذه الانتماءات هي التي استطاعت أن تبسط سيطرتها بعد سقوط النظام، مستغلة انهيار الدولة وانفلات السلاح، ومستغلة التدخلات الخارجية التي انقضّت على ليبيا، باعتبارها ساحة مفتوحة.
جملة هذه العوامل، تدركها النخبة الليبية، ولكنها لم تستطع أن تجد الوصفة السحرية لتجاوزها. فكثير منهم يعتقد أنّ غايته القصوى هي بسط نفوذه الداخلي، دون أي اعتبار لاختلافات الوضع الداخلي ومتغيراته، ودون اعتبار لمتطلبات الوضع الدولي، بمعنى آخر استعادة أخطاء النظام السابق الذي لم يعر الانتباه لكلا الوضعين. بعض الليبيين لم يستطع تفكيرهم تجاوز، ما أنتجته الدولة الليبية المنهارة، وهذا يعني أنه لا يمكن له أن يكون ضمن المشهد الجديد لأنه لا يمتلك المقومات اللازمة للفعل في هذه المرحلة. والمشكلة أن بعض هذه القوى تمتلك ترسانة سلاح رهيبة، وبها تحتل المدن وتجبر الناس على الولاء إليها، خوفاً من بطشها، ولغياب الصد المحلي، الذي يمكنه إنهاء حالة انفلات السلاح.
خمس سنوات من العنف والاحتراب الداخلي، في ليبيا، كفيلة بأن تدفع العقلاء وحكماء هذا البلد، وكفيلة بأن تدفع الكفاءات الليبية التي استطاعت أن تكتسب خلال فترة عيشها خارج ليبيا إلى أن تنقل خبراتها للوطن، وأن تساهم في بناء ليبيا الجديدة. هنا على الليبيين أن يضعوا نصب أعينهم أنه بإمكانهم لو امتلكوا الإرادة أن يصنعوا السلام الداخلي، وأن يعيدوا الوحدة إلى مجتمعهم. وعلى الليبيين أن يطمحوا لنيل جائزة نوبل للسلام مثلما نالها جيرانهم التونسيون. ولكن طموح الفوز بهذه الجائزة الاعتبارية، يستوجب أن تتحقق الشروط الداخلية لصنع السلام، ويستوجب ترويج صورة وبناء شبكة علاقات قوية مع الأطراف الدولية. بمعنى آخر على الليبيين أن يتغيّروا في علاقاتهم الداخلية، وأن يبنوا شبكة علاقات دولية تمكن بلدهم من الانخراط الفاعل في النظام الدولي، وهي تمتلك كل المقومات الاقتصادية والجيواستراتيجية، لتكون دولة ذات صوت وكلمة، وذات موقف مؤثر في منطقة المتوسط وفي القارة الإفريقية وفي المنظومة الدولية بصفة عامة.
الطموح يظل مشروعاً، حصول ليبيا على جائزة نوبل للسلام، سيكون إنجازاً ليس من أجل ليبيا فقط، بل من أجل كل العرب، الذين صارت صورتهم ملطخة بالعنف والدم والإرهاب.
كمال بالهادي
صحيفة الخليج