زيارة جديدة للفكرة الفيدرالية

زيارة جديدة للفكرة الفيدرالية

المنطقة-العربية-1

ذكرت أكثر من مرة في هذا المقام، أن أي تسوية للأوضاع المؤسفة في المنطقة العربية، سوف تبدأ بالضرورة بنوع من الميثاق الذي يحدد مجموعة من المبادئ اللازمة للانتقال من حالة العنف والحروب الأهلية إلى حالة من السلم الأهلي. ضمن هذه المبادئ كانت هناك ثلاثة أرى أولويتها: الحفاظ على الدولة القائمة وتكاملها الإقليمي؛ والحماية الكاملة لحقوق الأقليات؛ واللامركزية في الحكم. هذا المبدأ الأخير يعطي للأقاليم الفرعية أو الإدارية أو حتى الإثنية، درجات مختلفة من السلطة التي تتيح مشاركة أوسع في تعبئة وتنمية وتوزيع ثروات الدولة. ولعل أهم صوره المعروفة هي الكونفيدرالية، والفيدرالية، والحكم الذاتي، والحكم المحلي، والإدارة المحلية، وهي تتدرج حسب درجات توزيع السلطة بين الأقاليم والسلطة العليا في الدولة، التي تنفرد وحدها بالحقوق السيادية للدولة.

من بين هذه الأشكال المختلفة، فإن الفيدرالية كثيرا ما طرحت كحل لكثير من المعضلات التي تواجهها بلدان عربية كثيرة. فقد طرحت من قبل المؤتمر الوطني العام في اليمن، على سبيل المثال، لحل قضيتي الجنوب والحوثيين وغيرها؛ كما أنها تردد ذكرها في محاولات حل الأزمة الليبية والسورية. ومع ذلك فإن الفكرة الفيدرالية في عمومها ليست من أشكال الحكم المحببة في البلدان العربية، بل إنها كثيرا ما تكون مستنكرة بشدة، على أساس أنها المقدمة الدائمة للانفصال والتفتيت للدولة العربية التي نريد لها البقاء. وللحق فإن التجربة في السودان كانت محزنة، حيث انتهى الحل الفيدرالي إلى انفصال الجنوب، ومن بعده فإن دارفور خاضت حربا ضد الحكومة المركزية، وكان فيها من يريد تقليد ما حدث في الجنوب، والذي بدوره دخل حربا أهلية استنادا إلى تقسيمات قبلية وجغرافية. وفي العراق فإن النتيجة النهائية كانت محزنة، فقد باتت الأقاليم الشيعية والسنية والكردية كما لو كانت مقدمات لدول، التي فضلا عن تقسيمها للدولة العراقية، فإنها تضع بذور حروب ونزاعات لا تنتهي بينها.

وفي الحقيقة فإن «الفيدرالية» هي نمط من أنماط الدول المركبة التي تتضمن نوعين من السلطة: واحدة هي الجامعة لإرادة المشاركين في الدولة؛ وأخرى لمكوناتها، سواء كانت ولايات أو أحيانا تحمل اسم «دولة» بالمعنى المجازي للكلمة. ورغم توزيع السلطات بين السلطة العليا الفيدرالية والأقاليم، إلا أنه في كل الأحوال لا يتضمن ذلك توزيعا للسيادة، وإلا كان ذلك انفصالاً حقيقيا، وهو ما حرص الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن على تأكيده، حينما حاولت الولايات الجنوبية الانفصال عن الولايات المتحدة عام 1860. هذا النمط من الدول المركبة شائع بشدة في العالم، وهو الأكثر شيوعا بين الدول الكبرى في عالم اليوم، مثل الولايات المتحدة، والهند، وروسيا، وألمانيا، وإيطاليا، وماليزيا، والبرازيل، ونيجيريا، وأستراليا، وكندا، وغيرها من الدول.

والحقيقة أيضا أن «الفيدرالية» كنمط من أنماط تنظيم «الحكم» في الدولة، لا يكون ناجحا إلا باستيفاء شروطه، وما لم يتم ذلك فإن الفشل سيكون من نصيبه. ويكون النجاح ممكنا عندما لا يقتصر قيامه فقط على محاولة حل النزاعات والصراعات والحروب الأهلية بين جماعات تنتمي إلى تقسيمات جغرافية متجاورة، فلا بد أن يكون متوافرا مع ذلك بعض من المصالح المشتركة التي تقع في مقدمتها الحماية والقدرة على الدفاع في مواجهة دول كبيرة وذات تاريخ توسعي. وعلى الرغم من أن «الأمن» يقع دوما في مقدمة الشروط، فإن السوق الاقتصادية المشتركة للبشر والسلع والبضائع، والعملة الموحدة، تعتبر من أدوات التوحيد التي تكون قابلة للنمو وتوسيع المصالح بين الأطراف المختلفة المشاركة في الدولة. وقد اكتسب ألكسندر هاملتون مكانته في التاريخ الأميركي، ليس فقط بوصفه واحدا من أهم المؤسسين للدولة، ولكن أيضا مما نشره في «الأوراق الفيدرالية» التي دعا فيها إلى ضرورة إنشاء بنك وطني موحد للولايات المتحدة الأميركية، يكون مختصا بإصدار العملة وإدارة تعاملاتها.

والحقيقة ثالثا، أنه لا توجد فيدرالية سيئة أو فيدرالية فاضلة وجيدة، إلا بالقدر من الشروط والمكونات التي تقوم عليها؛ وبقدر ما تكون الفيدرالية أحيانا مقدمة لانفراط عقد الدولة، فإنها تكون أحيانا أخرى أداة لزيادة وحدتها، بل وأحيانا الحفاظ عليها من الانفراط أو الاغتيال بالاستيلاء عليها من دول أخرى أكثر إصرارا وعزيمة وعدوانية. والذائع أن الولايات المتحدة الأميركية هي الأكثر شهرة في التجارب الفيدرالية بما جمعته من 50 (دولة أو ولاية) تحت عباءتها، والكيفية التي وزعت بها السلطة بين الحكومة الفيدرالية والولايات التي قد تكون هي الأخرى اتحادا من نوع أو آخر لمجموعة من الأقاليم أو المقاطعات، حتى أن تسمية «الكومنولث» (ماساتشوسيتس على سبيل المثال) شائعة بين الولايات. وكان أيضا النظام المزدوج للسلطة التشريعية بين مجلس النواب، الذي يمثل الولايات على أساس من عدد السكان، ومجلس الشيوخ الذي يمثل الولايات أيضا، ولكن على أساس كامل من المساواة، بحيث يكون هناك عضوان يمثلان كل ولاية، سواء كانت صغيرة جدا في المساحة مثل فيرمونت، أو في عدد السكان مثل آلاسكا؛ أو كبيرة سكانا أو مساحة مثل كاليفورنيا ونيويورك. هذه الآلية من التمثيل تضمن دوما ألا يضام حق الصغير والمحدود والأقلية في عمومها، سواء كانت سياسية أو عرقية أو جهوية؛ في الوقت الذي تحصل فيه الأغلبية على حقها في حسم القرار.

إلا أن الهند ربما كانت الأكثر تعقيدا بين التجارب الفيدرالية، فعلى الرغم من أنها فشلت في استيعاب بعض من المسلمين داخل الدولة الفيدرالية عند استقلالها، فانفصلوا مؤسسين لدولة باكستان، التي انقسمت بعد ذلك إلى باكستان وبنغلاديش؛ فإنها في النهاية استوعبت القدر الأكبر من المسلمين حتى إنها باتت الآن الدولة الثانية بعد إندونيسيا من حيث عدد المسلمين بها. وتضم الفيدرالية الهندية 29 ولاية و7 مناطق اتحادية لها أوضاع خاصة، فضلا عما منحه الدستور لجماعات أو طوائف تقع في داخل ولايات مختلفة من حقوق بعينها في التعليم والزواج والثقافة. والثابت أنه على الرغم من التعقيد والتركيب الشديد في الفيدرالية الهندية، فإن الشهادة العالمية تقوم على نجاح التجربة سواء كانت عن وجود الهوية والوطنية الهندية، على الرغم من التعدد الشديد في مفرداتها، أو التقدم الاقتصادي الذي أعطى النظام مميزات إضافية في الاستقرار.

ولكن على الجانب الآخر، فإن تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة تشير إلى درجة كبيرة من النجاح، ليس فقط لأنها استمرت على الرغم من وجود سبع إمارات مشاركة فيها، ولكن أيضا لأن شواهد ومؤشرات كثيرة تشير إلى أن الدولة الآن أكثر اتحادا من أي وقت مضى؛ وأنه في العقد الخامس للدولة فإن «الهوية» الإماراتية أصبحت متفوقة على بقية الهويات المتداخلة معها، سواء تلك المحلية في كل إمارة أو الإقليمية العربية أو العالمية الإسلامية.

الخلاصة أن الفكرة الفيدرالية ليست شرا بالضرورة، ويمكنها مع بعض من الخيال أن تكون واحدا من الحلول لكثير من مشكلاتنا المستعصية، وأهمها معضلة التوفيق بين التعددية السياسية والإثنية، والحاجة الماسة للدولة الموحدة.

عبدالمنعم سعيد

صحيفة الشرق الأوسط