تعتبر القبيلة كجماعة أولية في المجتمعات العربية أكثر تماسكا من الحزب الذي يتم تأسيسه في بيئة قبلية جهوية تترك بصمتها عليه فيأتي نسخة مشوهة من صورة الحزب الذي نشأ كظاهرة اجتماعية وسياسية في مجتمعات الغرب التي بلغت من التطور مرحلة انتهى فيها الدور السياسي للجماعة الأولية وللدين معا، فأصبحت مرجعية الانتماء الأعلى هي الوطن والأمة.
بينما عجز الحزب في المجتمعات العربية عن تقديم نفسه بديلا عن القبيلة، وأصبح في كثير من الأحيان أداة احتياطية لخدمة الانتماء القبلي لبعض أعضائه في صراعهم على المغانم السياسية في دولة وجودها بالنسبة لهم مشروطا بخدمة القبلية، لأنه ليس من خلال الوطن بل من خلال القبيلة فقط يستطيع هؤلاء أن يتميزوا ويحصلوا على مكانة.
لهذا فإن النخبة النافذة في ليبيا ومثيلاتها في المجتمعات العربية تعول على القبيلة وليس على الحزب الذي يمكن الاستغناء عنه، بل يمكن اختفاؤه من المشهد السياسي دون أن يتغير شيء في هذا المشهد.
ولعل المشهد الليبي خير شاهد على ذلك سواء في العهد الملكي حيث ألغيت الأحزاب، أم في عهد القذافي حيث تم تجريم الحزبية وتخوينها، أم بعد ثورة السابع عشر من فبراير وتجربة المؤتمر الوطني حيث تعالت الأصوات ضد ظاهرة الأحزاب، فبدأت بعض الأحزاب تتوارى خلف الستار كي تتجنب الهجمة المضادة على الأحزاب في أوساط جماهير مكبوتة انطلقت من قيودها وليست لديها ثقافة ولا تجربة حزبية من ناحية، ويمتطى موجة أغلبها نخبة من القبليين والجهويين الذين لا تسمح لأغلبهم إمكاناتهم ومؤهلاتهم أن يتحصلوا على مكانة وتميز في حالة دخولهم في تنافس نخبوي مفتوح على المستوى الوطني الاشمل، وبالتالي لابد أن يتخندقوا في شرنقة القبيلة ويتمترسوا في الجهوية.
لقد جاءت الانتخابات البرلمانية والجمعية التأسيسية للدستور لتؤكد ذلك، حيث تم التقدم إلى الانتخابات على أساس الاختيار الفردي وبعيدا عن شعارات الأحزاب، بينما ظلت القبلية والجهوية حاضرة في خدمة الجهويين والقبليين الذين وصل عدد منهم إلى البرلمان، وهو عدد لا يعكس القاعدة الانتخابية المؤيدة لتوجهاتهم، بل بسبب عزوف الناس عن الأحزاب ولاسيما تلك المنتمية منها لتيار الإسلام السياسي الذي كره الليبيون ممارساته وحلفاءه من المليشيات والجماعات المتطرفة والتكفيرية العابرة للحدود، والتي أوصلت الوطن إلى ما وصل إليه، فبفضل الثقافة المعادية للأحزاب وبسبب ممارسات تيار الإسلام السياسي نشأت حالة من الفراغ استغله الجهويون والقبليون ليستثمروا الجهوية والقبلية استثمارا سياسيا مثل ما استثمر قبلهم الإسلام السياسي الدين بالكيفية نفسها.
لقد كانت “النخبة” الجهوية والقبلية منبوذة من غالبية المجتمع بعد السابع عشر من فبراير، وزادت كراهية الناس لهم بعد أن قاموا بأعمال عنف في أول انتخابات يشارك فيها الليبيون بعد أكثر من أربعين عاما، بل قاموا باستخدام مليشياتهم لقطع الطريق بين شرق البلاد وغربها، لأنهم أدركوا أنهم لن يحصلوا على أصوت كافية لإيصالهم إلى مقاعد المؤتمر الوطني، ولكن بعد فشل المؤتمر وظهور المليشيات الدينية المسلحة انفتح الباب أمام هذه “النخبة” وأمام المليشيات الجهوية والقبلية في شرق البلاد وغربها.
غير أنه ينبغي التمييز بين القبلية في شرق ليبيا وغربها، ففي الغرب بدأ الصراع القبلي المسلح بعد السابع عشر من فبراير بسبب انخراط بعض القبائل في الانتفاضة ومحاربتها لنظام القذافي، بينما بقيت بعض القبائل على علاقتها مع النظام، الأمر الذي أدى إلى صراع مسلح دام بين هذه الأطراف القبلية، وبالتالي فإن تجلى القبلية في الغرب الليبي بداية كان بسبب الصراع السياسي حول نظام القذافي وليس بسبب مطالب جهوية، ثم تطور ليحمل مطالب في مواجهة القبائل بعضها البعض بسبب ثارات قديمة، ولكنها لم تكن مطالب على المستوى الجهوى أو مستوى الأقاليم.
أما في الشرق الليبي فلم يكن هناك صراع بين القبائل بسبب النظام، لأن النظام ومؤسساته سقطا خلال أيام معدودات، ولم يكن هناك وقت كاف لكي يؤجج أنصار القذافي الصراع القبلي لمصلحة النظام، ولهذا فإن عدم وجود صراع بين القبائل في الشرق الليبي شجع أقليات جهوية وقبلية معظمها كانت له مكانة في نظام القذافي، على أن تطرح وبحذر شديد مطالب جهوية باسم الفيدرالية أثناء الحرب على نظلم القذافي، فكان طرح الموضوع وتوقيته بمثابة صدمة صاعقة للرأي العام الوطني، لأن القذافي كان لا يزال يسيطر على أكثر من نصف ليبيا ولم يسقط بعد.
وقد بدا ذلك لليبيين دعوة لتقسيم ليبيا في الوقت الذي ما زال فيه الليبيون يخوضون حربا ضد القذافي الذي كان يلوح بالتقسيم للمحافظة على بقائه في السلطة، وقد كان ذلك بمثابة إعلان عن الدخول المبكر للجهويين والقبليين للمشهد السياسي الليبي قبل أن تلتحق بهم المليشيات الدينية المسلحة فيقود هذان الطرفان المشهد الليبي معا إلى حالة الانهيار التي يعيشها الوطن في هذه المرحلة من تاريخه.
لاشك أن كلا الطرفين يتغذى من الآخر، فبعد تجربة المؤتمر الوطني وفشله في وضع نواة صلبة للجيش والشرطة وتغول المليشيات المسلحة ولاسيما الدينية منها التي ترفض الدولة المدنية والمسار الديمقراطي، وما وجدته هذه المليشيات من دعم من بعض القوى الإسلامية في المؤتمر الوطني، كل ذلك فتح الباب أمام أية جماعة لتتمرد على السلطة الشرعية وتمارس الابتزاز ضد الوطن.
وفي هذا السياق جاء إعلان جزء من تلك النخبة حكومة أسمتها حكومة برقة ورفعت علمها على الحدود الجغرافية لما تعتبره حدود الإقليم، بل بدأت في تصدير النفط لاستكمال أركان دولة الأمر الواقع التي يريدون فرضها على الليبيين بقوة السلاح، ولكن يبدو أن مصالح القوى الكبرى لم تكن في تلك المرحلة تسير مع سياق مصالح هؤلاء، فتم إحباط المحاولة، ثم لاحقا جاء رفض المؤتمر الاعتراف بشرعية البرلمان المنتخب، فأدى ذلك إلى انقسام الوطن بين السلطة الشرعية وسلطة الأمر الواقع.
أصبحت السلطتان تحت رحمة المناطقية والقبلية والمليشيات الدينية، وبدأ الصراع في غرب البلاد بين المناطق والقبائل رغم أن الحجة الظاهرة هي الاصطفاف إلى جانب السلطة الشرعية التي يمثلها البرلمان، أو إلى جانب سلطة الأمر الواقع التي يمثلها المؤتمر الوطني، بينما أصبح البرلمان الليبي في شرق البلاد بحكم الجغرافيا والواقع تحت حماية القبائل. وبصرف النظر عن وجوب حماية السلطة الشرعية، إلا إن هذه الحماية ترتبت عليها نتيجتان كلتاهما تضعفان من سلطة الدولة.
تتمثل النتيجة الأولى في صفة من يوفر الحماية وهو الطرف القبلي، وهو -دون شك- يقوى من القبيلة كلاعب سياسي ويضعف السلطة الشرعية التي اختارها الليبيون.
أما النتيجة الثانية فهي أن الأطراف القبلية التي توفر الحماية للبرلمان مخترقة من بعض القيادات الجهوية التي انتهزت فرصة هذه الحماية لكي تفرض على السلطة الشرعية إقرار مطالب ابتزازية لتثبيت وقائع ترسخ الجهوية والقبلية كمسار سياسي لم يشارك الليبيون في اختياره رغم أنه خطير ويؤل بليبيا إلى الصراع والتقسيم.
إن المناطقية والجهوية قابلتان للانقسام السرطاني إلى حد الموت والفناء، والقبلية بحكم منطقها وبنيتها الإنثروبولوجية تحمل بذرة صراع داحس والغبراء والذي يتغلغل في جسد القبيلة الواحدة حتى يصل إلى فروعها وبطونها، ولا يتوقف إلا عند عائلة فلان التي تصبح ذرة وحدها، وكيانا وحدها يمارس وجوده العبثي فوق ركام القبيلة بعد ركام الوطن.
إن من قد يفكر في بناء كيان سياسي اعتمادا على هذين العاملين، يؤسس في الحقيقة لركام لا يوجد فيه كيان سوى عائلة فلان التي تخوض صراعا حتى الموت مع عائلة فلان الأخرى وهذا في أحسن الأحوال، لأن عائلة فلان هي أيضا يسرى عليها قانون الانقسام الذاتي فتتحول إلى خلية سرطانية تلتهم بعضها البعض.
لعل ما جرى من صراع في المجلس الرئاسي حول تشكيل حكومة المحاصصة وما جرى في البرلمان حول التشكيلة الحكومية الثانية من صراع جهوى ثم قبلي خير دليل على هذا، فبعد أن كان الصراع على مستوى ما يسميه الجهويون الأقاليم الثلاثة حيث تخندق البعض خلف مدينته في الغرب والبعض الآخر خلف ما يسميه إقليمه في الشرق، تشظى المنطق القبلي والجهوى ليصبح الصراع بين أبناء من يسمون أنفسهم أبناء الإقليم الواحد.
ثم تمدد الصراع ليدخل إلى مستواه الثاني وهو التقسيم القبلي داخل الإقليم نفسه حول الوزارات، ولم تجد “النخبة” الجهوية والقبلية ما تبرر به هذا الانقسام القبلي سوى اتهام الإسلام السياسي ببث الفتنة بين القبائل، وقد يقوم تيار الإسلام السياسي بذلك حسب منطق الخصومة والصراع، ولكن الجهويين والقبليين لم يعترفوا بأن خصمهم الإسلامي لم يجد أمامه خصوما ينتمون إلى الوطن فقط ويدافعون عن الدولة المدنية والمسار الديمقراطي، بل وجد أمامه “نخبا” تستثمر القبلية والجهوية انطلاقا من مصالحها الخاصة ولا يهمها تشظى الوطن وخرابه.
لاشك أن القبلية والجهوية هما البنيتان الأكثر قابلية للتلاعب بهما من قبل من يريد تحقيق مكاسب سواء من قبل أبنائهما الذين يسعون إلى تحقيق تميز ومكانة لا يستطيعون تحقيقهما في فضاء التنافس الوطني الأوسع، أو من قبل أعداء الوطن الخارجيين الذين يرون أن مصلحتهم تقتضى تفكيك الجماعة الكبرى التي تعيش تحت سقف وطن واحد.
القبيلة مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي الإنساني ينتهي بها إلى التحول إلى كيان اجتماعي أكبر وهو الأمة.
القبيلة الليبية رهينة بقياداتها ونخبها، فإذا كانت هذه النخب تفكر في الوطن وقادت القبيلة لبناء الوطن والأمة فإنها تصبح معول بناء، ولكن إذا تم اختطافها من قبل “نخب” تفكر في ذاتها، فسنتحول تلقائيا إلى تفعيل “بنية الانقسام الذاتي” وهذا ما يبدو عليه الحال في هذه المرحلة الحرجة التي يعيشها الوطن.
صالح السنوسي
المصدر : الجزيرة نت