ما أدلى أوباما بحديث أو أعطى مقابلة وفي فترته الثانية بالذات، إلاّ ونال من السعودية ومن الفلسطينيين، وأحيانًا من العرب جميعًا. ويرجع ذلك إلى أنه ووجِهَ في الشرق الأوسط بأكثر الأزمات وأصعبها، وما حقّق «نجاحًا» في المنطقة من أي نوعٍ باستثناء الاتفاق النووي مع إيران. لقد فشل في العراق، وهو ما يزال يضع ذلك على عاتق بوش الابن الذي تدخل بالعراق أولاً. وفشل في فلسطين، بعد تحرك دبلوماسي لأكثر من أربع سنوات في فترتيه، وهو يحبُّ أن يُشيع أنّ سبب الفشل نتنياهو، لكنه في تصريحاته العلنية وتصريحات وزير خارجيته يضع المسؤولية على عاتق الفلسطينيين. وفشل في ليبيا وحلّت الفوضى المسلَّحة و«داعش» بعد التدخل الأطلسي، وهو يريد من الأوروبيين أن يتدخلوا، لكنه من جهة أُخرى «يحسد» فرنسا على تدخلاتها في أفريقيا، ولا يقبل تدخلاً في أي مكانٍ إلاّ بالتشاور معه. وقال له بعض مستشاريه إنّ من الأفضل الوقوف مع الإخوان المسلمين بمصر ولسببين؛ أنهم القوة السياسية الوحيدة المنظمة بالبلاد، وأن وصولهم للسلطة يمكن أن يهدّئ الراديكاليين، ويغيِّر من مشهد التطرف. وقد حسب حسابًا للجيش، لكنه اعتقد أنّ إقناعه باقتسام السلطة ممكن. لكنّ تبين أنّ خبراء الإدارة لا يعرفون الجيش جيدًا، كما لا يعرفون «الإخوان» جيدًا أيضًا. وفي سوريا ما أخطأ أوباما في الفهم ولا في التصرف، لأنه كان مقتنعًا منذ البداية بإعطاء سوريا لإيران، والتعامل معها كما تعامل معها في العراق عندما منحها إياه عام 2010! إنما ظهرت هناك مشكلتان: أنّ بشارًا والميليشيات الإيرانية ما استطاعوا القضاء على المتمردين، وأنّ «داعشًا» و«القاعدة» ظهرا في سوريا كما في العراق. وقد أخبرته أجهزته أنّ الإيرانيين والنظام الأسدي لهم علائق بالإرهابين: القاعدي والداعشي! وهكذا ورغم اقتناع أوباما بالقدرات الأُسطورية للإيرانيين، اضطر لقبول المشاركة الروسية (إلى جانب الإيرانية)، وهي مشاركة تُرضي إسرائيل أكثر.
لماذا هذه الكراهية للعرب وللسعودية على وجه الخصوص؟ ما كان أوباما يريد التدخل في أي مكان، هجرانًا لسلوك بوش وكارثة العراق، والحرب العالمية على الإرهاب. وفي كل أمرٍ يتلقّى نصائح بالتدخل، كان يبحث عن شريك دولي فعّال من مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا… الخ. أمّا في الشرق الأوسط فقد اختار منذ البداية إيران. إذ اعتقد أنه يستطيع «المبادلة» معها: لديها تهديد إسرائيل، ولديها النووي، ولديها تهديد أمن الخليج أو التحرش به، ولديها نصف قيادة «القاعدة»، ولديها ميليشيات مسلَّحة شيعية وسنية يمكن استخدامُها لأغراض مختلفة. والولايات المتحدة دأبت على تضييق الحصار عليها في المجال الدولي، لكنها تعاملت معها بمرونة على الأرض منذ الثمانينات في مجال إطلاق الرهائن الذين كان عملاء إيران يخطفونهم، وفي مجال تزويد إيران بالأسلحة من طريق إسرائيل.
لقد اختارت إدارة أوباما إيران قوة إقليمية شريكة رغم مشكلاتها الكثيرة معها، ولم تختر تركيا العضو في الحلف الأطلسي، والدولة ذات الاقتصاد الصاعد طوال أكثر من عقد، وذلك لعدة أسباب، منها أنّ الكيمياء ما عملت بين إردوغان وأوباما، ومنها أنّ إردوغان كان ذا سياساتٍ مستقلة مع بشار ومع إيران ومع روسيا، وهي العلاقات التي اضطربت كلها على مشارف صعود الإسلاميين في العالم العربي، وإرادة إردوغان أن يتزعم سنة العالم العربي، كما تزعّم خامنئي شيعة العالم العربي (!). وعلى كل حال، قد تكون حالة إردوغان مدخلاً لفهم «عقدة» أوباما من السعودية والعرب بعامة.
لقد أراد أوباما الهرب من التهمة أنه مسلم سرًا لأنّ أباه من مُسلمي كينيا. ثم لأن أحداث عام 2001 على يد «القاعدة» وأسامة بن لادن حفرت عميقًا في نفسيات الأميركيين والغربيين، وبخاصة أنّ «القاعدة» ما تزال موجودة، وأنه ظهر إلى جانبها «داعش» وتنظيمات أخرى متطرفة، كلها محسوبة على الإسلام السني، وتزعم أنها سلفية. والأمر الآخر أو الثالث، أنه ما كان هناك طرف عربي مستعدًا ليكون شريكًا إقليميًا يسير بالتوجهات الأميركية أيام بوش وأيام أوباما. وكانت الدول العربية القادرة نسبيًا مثل مصر والسعودية حريصة مثل إردوغان وأكثر على استقلالية السياسات. وهي في كل حال ليست مستعدة للعمل خارج أراضيها. قال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في مجلسٍ كنتُ حاضرًا فيه عام 2009: الأميركان يريدونني أن أوافق على إنشاء فرقة في الجيش لمكافحة الإرهاب، ونحن معنيون بأمننا الداخلي فقط. والمعروف أنه في عام 2014 فقط، وبعد ظهور «داعش»، أعلن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عن إرادته المشاركة في مقاتلة «داعش» في سوريا والعراق. بل إنّ السعوديين مضوا قُدمًا أخيرًا وأعلنوا عن إرادتهم القتال على الأرض في سوريا ضد «داعش». إنما عندما وصلوا إلى ذلك كانت قد جرت في النهر مياهٌ كثيرة. فقد صارت إيران شريكًا في العراق وسوريا، وإيران وأوباما استعانا ببوتين لضبط المشهد السوري بعد أن صار مستعصيًا عليهما. وازدادت علاقات الأميركيين بإردوغان توترًا بعد أن اتفقوا مع روسيا وإيران على الاستعانة بحزب العمال الكردستاني في سوريا؛ في الوقت الذي يشنُّ فيه الأتراك على الحزب حربًا في تركيا والعراق. واقتربت السعودية من تركيا، بينما ازداد الأميركيون والروس عن إردوغان ابتعادًا. وبقدر ما أخذت إدارة أوباما على السعودية «انكفاءَها» داخل حدودها باستثناء التعاون الأمني، انزعجت الإدارة الأوبامية عندما اضطرت السعودية للحفاظ على أمنها خارج الحدود في عهد الملك سلمان في اليمن وفي سوريا، ومصارحة الإيرانيين بالمواجهة في كل مكان، وإقامة التحالفات العربية والإسلامية لمواجهة الإرهابيين القاعديين والداعشيين والمتأيرنين.
أما السعوديون من جانبهم فإنهم أخذوا على الأميركيين الجوانب غير المنطقية في سياساتهم ضد الإرهاب، وتجاه العرب ودول الخليج. فهم يتعاونون مع الإيرانيين حتى في تدخلاتهم، ومع الأكراد حتى في تدخلاتهم، ولا يتحمسون لتدخُّل الخليجيين في اليمن لردع الحوثيين الذين يتعرضون لأمن الحدود.
كلام أوباما تجاه السعودية يبدو عدوانيًا بالفعل. هو يقول إنّ السعودية «تُغرِّدُ خارج السَرْب في العراق وسوريا واليمن». وهذا كلامٌ لا معنى له. ففي العراق لا تدخل للسعودية. وفي سوريا تتدخل لصالح الطرف الذي من المفروض أنّ الأميركيين يدعمونه أيضًا. وفي اليمن تتدخل السعودية لإنفاذ قرار مجلس الأمن رقم 2216 الذي اتّخذ بالإجماع. فما معنى أنها تغرّد خارج السرب؟! أما التصريح الأكثر لا معقولية فيتمثل في مطالبة السعودية بتقاسم النفوذ في المنطقة مع إيران. والسعودية نفوذها معنوي، وليست لديها ميليشيات، ولا تمارس إرهابًا ولا تهجيرًا ولا قتلاً، وهي تريد وحدة البلدان واستقرارها وسلامتها، وإيران تتدخل بالقتل والتهجير في بلادٍ عربية!
كان أوباما يشكو أنّ العرب لا يتدخلون لحفظ أمنهم. واليوم يشكو أنهم يتدخلون! والتدخل الإيراني مقدس رغم أنه تخريبي، والتدخل العربي تغريدٌ خارج السرب!
عربي أنا فإنْ كنتِ غضبى فاملأي وجهكِ الجميل خموشا
رضوان السيد
صحيفة الشرق الأوسط