أزمة سد النهضة: هدوء يسبق العاصفة

أزمة سد النهضة: هدوء يسبق العاصفة

288

ما زال مسار مباحثات سد النهضة متعثراً، على رغم انقضاء خمس سنوات من الصولات والجولات، والتبشير الحكومي بتحقيق تقارب مع إثيوبيا لم يشهده التاريخ من قبل، بينما إثيوبيا تعمل ليل نهار لاستكمال منشآت السد وفي تكتم شديد على مصادر التمويل وحتى على تصميمات السد.

لقد أنجزت إثيوبيا 60 في المئة من منشآته، وما زالت مصر تتفاوض للتعاقد مع مكتب استشاري لدراسة تداعيات السد وتأثيراته الوخيمة عليها. ولعدم وجود تحركات إيجابية حاسمة من قبل الدولة المصرية لتذليل الخلافات حتى تاريخه، لمواجهة التعنت الإثيوبي، ولتمسكها بالمسار الفني العقيم للمفاوضات، فالنهاية المحتومة هي فشل المفاوضات وتصاعد الخلافات بين الدول الثلاث وبما سيؤثر في استقرار المنطقة كلها.

وعلى رغم أن مصر وإثيوبيا لا تتطلعان إلى مواجهات أو نزاعات سياسية، فإنه لا ينبغي إغفال أن آثار سد النهضة كارثية على مصر، لا تستطيع استيعابها أو العيش معها، على رغم الكلام الساذج للبعض عن أن التحلية والترشيد هما الحل من دون فهم تحليلي لواقع وتداعيات الأزمة.

مصر في مفترق طرق بالنسبة إلى أزمة سد النهضة لما عانته من ظروف قاهرة ولأحداث الفوضى والتمزق التي شهدتها في أعقاب ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، فضلاً عن موروثات الماضي وفي مقدمها مشاكل غير محسومة واحتقانات غير مطروقة على مستوى حوض النيل بأكمله. ولا ننسى في هذا الشأن التدخلات الخارجية السافرة، سواء بالتمويل أو بالدعم السياسي، والتي أسهمت بنصيب كبير في حجم الأزمة الحالية وتفاقم أبعادها.

إن المسار الحالي للتعامل مع الأزمة مسار فني بحت يتمركز حول وضع دراسة حول تداعيات سد النهضة على مصر والسودان، وقد نجحت إثيوبيا في تفريغ هذا المسار من معناه وأهدافه، وستقوم في غضون شهور قليلة بافتتاح مرحلته الأولى والبدء بتخزين المياه. وهذا المسار العقيم لإدارة أزمة سد النهضة والعرقلة الدائمة للمباحثات أديا إلى إحباط المفاوض المصري، بل إلى تواضع تطلعاته وما يمكن تحقيقه من خلال هذا المسار. وساعد في الوصول إلى هذه الدرجة من الإحباط، ما تعيشه مصر من تدخلات وضغوط خارجية، ليس فقط في هذه الأزمة بل في الكثير من الأزمات الداخلية والإقليمية، وفي إطار ما يسمى بكوميديا أو مأساة الربيع أو الثورات العربية والتي أصبحت تهدد صميم الأمن القومي وتماسك البلاد.

تحت هذه الظروف الصعبة والحرجة، تصور بعض المسؤولين المصريين القليلي الخبرة والمعرفة أن جلَّ ما يمكن الحصول عليه في أزمة سد النهضة هو إطالة فترة التخزين الأولى للسد، والاتفاق على قواعد عامة لتشغيله بما يقلل نسبياً من أضراره على مصر. لكن هذا التصور الذي كان وما زال مقترحاً أميركياً خالصاً، لن يحقق لمصر إلا أقل القليل كمسكِّن وبصفة موقتة ولفترة محدودة، وهو مقترح بعيد كلَّ البعد عن الحل الجذري للأزمة.

إن إطالة فترة التخزين لو وافقت إثيوبيا عليها، لن تتعدى جعل فترة الملء خمس سنوات بدلاً من ثلاث، وهذا على أحسن الفروض، وبالتالي تأجيل ظهور الآثار الكارثية للسد على مصر.

والحل الوحيد لتقليل الآثار السلبية الواضحة للجميع هو تقليل سعته التخزينية، وهو ما ترفضه إثيوبيا وتخجل مصر من المطالبة به لسبب لا أعلمه. وقد يعتقد بعض المسؤولين المصريين أنَّ الحصول على شيء أفضل من لا شيء، ويرى أن اللجوء إلى التحكيم أو الوساطة الدولية أو مجلس الأمن قد يثير المشاكل والأزمات فيما تعاني الدولة من مشاكل كثيرة أخرى، ومن تشكك في نيات بعض القوى الكبرى نحو مصر. وهذا التصور المرتعد سينتهي بنا إلى الامتثال الكامل للمطالب الإثيوبية من دون تحقيق أي من المطالب المصرية المطروحة في المباحثات الفنية.

في آخر الأمر سيدرك الجميع وبعد فوات الأوان أنّ مصر لا تستطيع تحمّل تداعيات سد النهضة التي سوف تؤثر تأثيراً مباشراً في استقرار الدولة وأمنها القومي. ومن النتائج الكارثية لمسار المباحثات الحالي أنّ بقية دول حوض النيل ستحذو حذو المسار الإثيوبي، وسنفاجأ يوماً بعد آخر بقيام سدود جديدة، ولا أستبعد أن تنضم مصر إلى اتفاقية عنتيبي لتقل حصتنا المائية بمقدار 10-15 بليون متر مكعب سنوياً.

هذه هي الصورة وهذه هي توقعات المستقبل كما أراها، إذا استمر أداء الإدارة المصرية على المنوال نفسه في التعامل مع ملف حوض النيل.
إنّ مسار المباحثات أشبه ما يكون بكوميديا سوداء بابتسامات مليئة بالحسرة على إهدار الوقت والفرص. ولسوف تنتهي إثيوبيا من المرحلة الأولى مع بداية الصيف المقبل، ليبدأ تخزين المياه وتوليد الكهرباء، وسيبدأ انخفاض منسوب المخزون المائي في السد العالي وستنخفض كهرباء السد، وستتضاعف الآثار السلبية على مصر إذا استمرت موجة الجفاف الحالية. كذلك سيزداد ارتفاع سد النهضة عاماً بعد آخر لحجز مزيد من المياه بحيث نشعر بالنقص في حصتنا المائية في بضع سنوات قليلة. والنتيجة المحتومة هي الغضب الشعبي كرد فعل على المشاكل المائية التي يتوقع أن تسود أرجاء مصر. فهل تبدأ مصر قبل فوات الأوان في تصحيح المسار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهل ستبدي إثيوبيا المرونة المطلوبة في المباحثات، أم ستنجرف المنطقة إلى صدام محتمل دفاعاً عن حياة المصريين.

محمد نصر الدين علام

صحيفة الحياة اللندنية