خسر الحزب الديمقراطي المسيحي، الذي تتزعمه المستشارة الألمانية ميركل، الانتخابات المحلية في ولايتين. وهي ظاهرة تحصل عادة في أوروبا الغربية عندما يكون الحزب الحاكم قد مضى عليه زمن طويل نسبياً في السلطة. وقد مضى على ميركل في المستشارية (بالتحالف مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي) زُهاء الثماني سنوات. والمعروف أنها فازت في الانتخابات العامة مرتين متتاليتين. إنما الذي أثار اهتمام المراقبين، وأخاف أنصارها في ألمانيا وأوروبا، هو أنّ الحزبين أو الحركتين اللتين فازتا بأكثر من 25% من الأصوات في الولايتين، هما من الحركات اليمينية التي ظهرت في الأعوام الأخيرة، واتخذت مظاهراتها الأسبوعية موضوعين للاحتجاج على سياسات ميركل: سياسات الإبقاء على الاتحاد الأوروبي بأي ثمن، والسياسات البشوشة حيال الهجرة، وبخاصة الهجرة السورية خلال العامين 2014 و2015.
والمعروف أنّ الاتحاد الأوروبي شهد انتكاسات كبرى بعد إفلاس اليونان، والأوضاع الاقتصادية السيئة في البرتغال وإسبانيا وإيطاليا. وبينما تذمَّر معظم المشاركين في الاتحاد من الأعباء التي تفرضها عليهم الحالة اليونانية والحالات المشابهة، فإنّ ميركل فاوضت طويلاً وبحماس وتحمُّل لأعباء القروض الكبرى، لإبقاء اليونان في الاتحاد. صحيح أنّ فرنسا شريكة لألمانيا في السوق ثم في الاتحاد منذ الخمسينات، لكنّ الاتحاد الأوروبي ليس ذا شعبية كبرى في أوساط الحزب الاشتراكي (حزب هولاند) خصوصاً. وهكذا بدت ألمانيا ميركل وحدها قائد إنقاذ الاتحاد.
إنّ دفع المال من أجل الاتحاد الأوروبي، لا يحظى بشعبية كبرى في ألمانيا. إذ يظن أهل اليمين القومي الألماني وبعض اليساريين المتطرفين، أن الشعب الألماني يتعرض للاستغلال والابتزاز من جانب الأوروبيين الكسالى بسبب تاريخه النازي. والمعروف أنّ معظم الأقطار الداخلة في الاتحاد كانت محتلة من ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
ولسوء حظ ميركل، أُضيف إلى ملف سلبيات الاتحاد الأوروبي: ملف الهجرة الكثيفة إلى ألمانيا من أقطار آسيا وأفريقيا، وفي الأعوام الأخيرة، خصوصاً من سورياً والعراق وأفغانستان وبنغلادش وشمال أفريقيا. لذلك سُرعان ما تضاعف عدد المحتجين إثر القبول الألماني الكريم للمهاجرين السوريين خاصة. وهي سياسة فرضتها ميركل على ألمانيا، وحاولت فرضها على دول الاتحاد والتي ثارت بمجموعها واستعصت. أرادت ميركل أن تستوعب مليوناً في ألمانيا، وأن تحاول دمجهم، وأن يحاول كل الأوروبيين الآخرين (27 دولة) استيعاب نصف المليون. ولم يقف أحدٌ معها، حتى فرنسا وريثة ثورة الحرية والإخاء والمساواة! ومرةً أخرى قالت ثلاث دول أو أربع إنها تقفل حدودها، وإذا أُرغمت فستغادر اتفاقية شنغن والاتحاد الأوروبي.
لكن عبر أي طريق يأتي المهاجرون؟ معظم السوريين يأتون من تركيا إلى اليونان، ومن هناك يذهبون بعدة طرق وهدفهم ألمانيا، لكنّ الدول جميعاً تعترض سبيلهم. ولأنّ كرم ميركل تجاوز الحد في نظر اليمين الألماني والأوروبي، فقد وضعت خطة لإرضاء أردوغان، بحيث يُبقي السوريين على أرضه بانتظار عودتهم إلى بلادهم. بيد أن مطالب أردوغان المالية والتسهيلية (لدخول الاتحاد الأوروبي)، والتي تريد ميركل تلبيتها جميعاً رجاء تخفيف موجات الهجرة، أغضبت مجدداً دولاً أوروبية، وروسيا، وجمعيات حقوق الإنسان، والأُمم المتحدة.
ويضيف مراقبون وأساتذة ألمان إلى المصاعب التي تلقّتها ميركل من المهاجرين، ما حدث ليلة رأس السنة المنصرمة. ففي كولونيا، ومدن أُخرى، اندسّ بين حشود المحتفلين مئاتٌ من شبان المهاجرين متحرشين ومعتدين على البنات. وقد تبين أنّ معظم المعتدين من المغاربة، وليسوا من السوريين، وهؤلاء مضى عليهم بألمانيا عدة سنوات! لقد أحدث ذلك صدمة هائلة في نفسية الجمهور، وبخاصة كبار السن هذه المرة، وليس الشبان فقط. وقال كثيرون: إنه لا أمل في اندماج هؤلاء، أياً تكن السنوات التي مضت عليهم، فلماذا تحرص ميركل على تحميل الألمان أعباء استضافتهم؟
في الجنادرية قبل شهرين كنتُ -إلى جانب زملاء ألمان- مكلَّفاً بمحاضرة عن «الرؤية الألمانية للعرب والإسلام». وقد تجاوزتُ موضوع المحاضرة للحديث عن مستقبل أوروبا إذا اضطربت أحزاب الوسط، أو يمين ويسار الوسط في ألمانيا، وفي فرنسا. فالأزمة الاقتصادية الساحقة بعد الحرب الأولى، وحالة الفوضى، هي التي صعدت على ظهرها الراديكاليات والشموليات والنازيات والفاشيات إلى السلطة في أوروبا.
رضوان السيد
صحيفة الاتحاد