يصادف الثاني والعشرون من آذار من كل عام ذكرى السنوية لتأسيس جامعة الدول العربية التي تأسست في العام 1945م، وتعد هذه الجامعة من أقدم المنظمات الإقليمية والدولية من حيث النشأة على حد سواء. إن الميزة الأهم والأبرز التي تسم الجامعة، هي أنها مؤسسة قومية، وهو ما لا تعرفه أية منظمة دولية أو إقليمية، سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية. فالجامعة تجمع بين دول مترابطة من حيث الترابط الجغرافي، وتضم أجزاء أمة واحدة. وهي البيت الذي يحتضن كلهم في السراء والضراء. وهي ملاذهم الأول والأخير مهما تقلبت بهم الأوضاع وتباعدت بينهم الشقة تباعداً كبير وخطير.
تاريخياّ، وبعد الحرب العالمية الثانية، واستقلال بعض الدول العربيّة، وظهور حركات المقاومة خلال تلك الحرب، ظهرت اتجاهات لتدعيم وحدة الوطن العربي، وهو ما كلّلته دعوات إلى إنشاء ما يُمسى بـ«جامعة الدول العربية»، تتوحّد تحت رايتها تلك الدول، وبدأ التحضير لذلك ووضع البروتوكولات، وفي 22 مارس 1945، تم التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية من قبل مندوبى الدول العربية عدا السعودية واليمن اللتين وقعتا على الميثاق فى وقت لاحق. وحضر جلسة التوقيع ممثل الأحزاب الفلسطينية وأصبح يوم 22 مارس، من كل عام هو يوم الاحتفال بالعيد السنوى لجامعة الدول العربية.
لقد تعاقب على قيادة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية رجال متنوعو السمات والقدرات، هم: عبد الرحمن عزام باشا (1945-1952) وعبد الخالق حسونة (1952-1972) ومحمود رياض (1972-1979) والشاذلي القليبي (1979-1989) وعصمت عبد المجيد (1990-2000) وعمرو موسى (2001 – 2011). وكان لافتاً أنهم جميعاً استمروا في مناصبهم إلى أن أجبرت ظروف قاهرة بعضهم على الاستقالة، مثلما حدث مع عبد الرحمن عزام باشا عقب تغيير النظام الحاكم في مصر عام 1952، ومع محمود رياض عقب قرار القمة العربية نقل مقر الجامعة الدائم في القاهرة إلى مقر موقت في تونس. لذا يعتبر نبيل العربي هو الأمين العام الوحيد في تاريخ الجامعة الذي قرر ترك موقعه بمحض إرادته، في مؤشر واضح على عمق الأزمة التي يمر بها النظام الإقليمي العربي في المرحلة الراهنة، وهو مؤشر سيلقي بظلاله حتماً على مستقبل الجامعة العربية.
ومنذ تأسيس جامعة الدول العربية وإلى يومنا هذا لم تستطع من تحقيق أهداف ميثاقها والتي تتمحور حول توثيق الصلات بين الدول العربية وصيانة استقلالها والمحافظة على أمن المنطقة العربية وسلامتها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية. فهي- كما يظن منتقدي أدائها – عاجزة- بمفهومها وميثاقها وهياكلها المؤسسية- عن التعامل مع المشكلات العربية التي واجهت في الماضي -ولاتزال-في الحاضر الوطن العربي، وقلة فعالية دورها في المنازعات التي تقوم بين الدول العربية، وعدم قدرتها على ممارسة نشاط مؤثر على الساحتين الإقليمية والدولية، وهو الأمر الذي أدى إلى فقدها لثقة الدول الأعضاء وشكهم في صلاحيتها للدفاع عن مصالحهم، وخروج القضايا العربية الرئيسية والمنازعات بين الدول العربية من داخل إطار جامعة الدول العربية، وإن أكبر مثال على ذلك وفي الوقت الراهن الأزمة السورية إذ عجزت مؤسسات جامعة الدول العربية على تسويتها، وترك أمرها للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
كما أن جامعة الدول العربية ومن الناحية التاريخية وعلى الرغم من كل مؤسساتها التي أنشأت لتعميق التعاون والتكامل العربي إلا أنها فشلت في متابعة وتنفيذ الالتزامات الناتجة عن توقيع اتفاقيات التعاون العديدة بين الدول العربية في إطارها، أو التنسيق بين الأجهزة والمنظمات المتخصصة التابعة لها. وذلك إما لأنها الاتفاقيات تفتقد أصلاً لإمكانيات التنفيذ، أو لقلة الموارد المخصصة لها، أو لخضوع تنفيذها لعوامل سياسية متغيرة، أو لأنها وقعت أساساً لأسباب إعلامية، والدليل على ذلك أن ” معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي” و” اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية” و” السوق العربية المشتركة” مازالت في معظمها حبراً على الورق.
أما على المستوى القرارات، يرى منتقدي أداء جامعة الدول العربية، أن مجلسها أصدر العديد من القرارات منذ عام 1945 إلى عام 1981، فوجد أن أكثر من 80 بالمائة منها اتخذت وفق صيغة الاجماع، وإن تحفظات بعض الدول كانت في معظمها على قرارات مالية وإدارية. ومع ذلك فإن القرارات التي اتخذت بالاجماع لم ينفذ معظمها، لأنه تم الموافقة عليها وفق وسيلة من ثلاث: إما بالمجاملة، أو بالمسايرة، أو بالإكراه. وما قرار الذي اتخذه الحكام العرب في قمة “سرت” الليبية في توفير الدعم المالي لأهالي مدينة القدس المحتلة إلا دليل على ذلك إذ لم يصل أي شيء من ذلك الدعم.
وهناك أيضاً من يحمل الجامعة الدول العربية في مراحلها التاريخية من القرن المنقضي الفشل في تحرير فلسطين التي تعتبر قضية العرب الأولى، وغيابها في العديد من القضايا العربية التي تتطلب وجودها كغيابها في قضية جزر حنيش والجزر الاماراتية المحتلة من قبل النظام الإيراني، وإهمال الصومال عقود طويلة، وانشغالها عن قضية جنوبي السودان- التي أضحت فيما بعد دولة جنوب السودان- وابتعادها عن المشهد اللبناني، وعجزها عن مواجهة العدوان ومن ثم الاحتلال الامريكي للعراق التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م، وترك ملف الصحراء الغربية( البوليساريو) للمفاوضات التي تجرى برعاية الامم المتحدة، وإغفالها عن تحقيق العدالة الاجتماعية للشعوب العربية.
كما هي دائما الحسابات الخاطئة، ظنت بعض الدول أن عدم فعاليتة جامعة الدول العربية يكمن فيها كمؤسسة بكل مكوناتها، لذلك صدرت العديد من المبادرات والمقترحات من أجل تفعيلها وتطوير الأمانة العامة التابعة لها، إذ يرى أنصار هذه المبادرات والمقترحات بتفعيل الجامعة وتطوير أمانتها قد يوصلنا للهدف المنشود في تعزيز العمل العربي المشترك. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق، هل حقاّ جامعة الدول العربية بعد مرور واحد وسبعون عاما على تأسيسها، هي الجهة المسؤولة الوحيدة عن كل الاخفاقات العربية وبالتي هي بأمس الحاجة للإصلاح، وهل ستقوى على الاستمرار؟
وللإجابة على السؤال المشار إليه أنفاً، يجب أن نؤكد على مسألة بالغة الأهمية توضح مدخل من مدخلات عدم فعاليتها على مدار عقود طويلة، وهي أن جامعة الدول العربية تكاد تكون المنظمة الإقليمية الوحيدة التي حرمت من أهم خصائص المنظمات الدولية: وهي توافر الإرادة الذاتية والشخصية المستقلة تجاه أعضاؤها وغموض العلاقة القانونية بينها وبين هؤلاء الأعضاء. فهي منظمة إقليمية ذات طابع قومي بين دول مطلقة السيادة تعمل وفقاً لمبدأ التعاون الاختياري بين أعضائها.
لذا فمن يوجه سهام نقده إلى طبيعة جامعة يخطيء في ذلك، فالجامعة لا تملك سلطة فوق سلطة الدول الأعضاء، بل يرد – أساسا- إلى الدول الأعضاء في الجامعة، فتلك الدول أخفقت ليس فقط في ترجمة حلم الوحدة إلى أي صيغة من صيغ العمل المشترك، وبشكل خاص عبر وجود مؤسسات مستقرة وبنية اندماجية يمكن التأسيس والبناء عليها وتطويرها، بل أخفقت أيضا حتى في ترتيب شؤونها الداخلية، وفي خلق بيئة مجتمعية داخلها تكون سداها ولحمتها المؤسسات والقوانين التي تساوي بين المواطنين، وتوحد بينهم، على مستوى الواجبات والحقوق، من ثم نستنتج أن الدول المفتقرة إلى البنية المؤسسية في تنظيمها الاجتماعي الداخلي من الصعوبة بمكان عليها المشاركة في إقامة بنية مؤسسية فاعلة على مستوى أعلى: المستوى القومي، في الحالة العربية. إذ انعكست حالة الافتقار في كل دولة عربية على أداء جامعة الدول العربية وأضحت ضحية الانقسامات والتمزقات بين المحاور والتكتلات في الدول العربية، والاختلالات التي حدثت في موازين القوى بين الدول بعد تفجر الثروة النفطية، ثم قيام حرب الخليج الثانية والثالثة التي أدت إلى كشف عورات التناقضات العربية، وأوضحت قصور مفهوم وآليات العمل العربي المشترك، فضلاً عن التدخلات الخارجية التي تسعى إلى تقوية النزعات القطرية وتهدف إلى شل أية محاولات لتحقيق سياسية عربية جماعية، كل ذلك أدى إلى نتائج خطيرة على دور جامعة الدول العربية وأداءها تمثل فيما أوضحناه سالفاً من عجز وفشل.
أما من يرجع إخفاقات جامعة الدول العربية إلى امين عام جامعة الدولة العربية، فإنه من المعروف أن ميثاق جامعة الدول العربية لا يخول أمينها العام سلطات أو صلاحيات خاصة تؤهله القيام بدور سياسي فاعل على الساحة العربية، ولا يتيح له هامشاً معقولاً من الحركة يسمح له بالتوسط لإجهاض الأزمات العربية قبل وقوعها أو للبحث عن تسويات لهذه الأزمات بعد اندلاعها. لذا يصعب الادعاء بأن السمات الشخصية للأمين العام كانت من بين العوامل التي أسهمت في إضعاف أو في تقوية جامعة الدول العربية أو كانت هي السبب الأساسي في ما حققته الجامعة من نجاحات أو منيت به من إخفاقات.
فالواقع أن الأزمة التي تمر بها جامعة الدول العربية حالياً تعود إلى أسباب بنيوية تجد جذورها في غياب إرادة سياسية عربية موحدة تخلص في الدفاع عن المصالح العربية المشتركة وحماية الأمن القومي العربي. وما لم تعالج أسباب هذا الخلل البنيوي من جذورها فلن يكون بمقدور أحد انتشال الجامعة من الهوة السحيقة التي وقعت فيها. وللأسف فإن التنافس القائم حالياً بين الدول العربية للفوز بمنصب الأمين العام للجامعة يبدو أقرب إلى سباق للفوز بمكافأة ثمينة في نهاية الخدمة منه إلى سباق للفوز بموقع مؤثر يمكن من خلاله ممارسة القيادة والنفوذ.
ليست الجامعة دول العربية التي بحاجة إلى اصلاح وإنما السلطات الحاكمة في الوطن العربي المنغلقة على نفسها، والمفتقرة إلى أي مشروع قومي حضاري، تدافع عنه وتقاتل من أجله. إن ” محنة الأمة” تبدأ من تضاؤل فعالية النظم السياسية، إلى جانب غياب الديمقراطية، فضلاً عن سيطرة التخلف السياسي وشيوع الفساد. لذلك فإن القاء اللوم على جامعة الدول العربية، وتحميلها مسؤولية تردي الوضع العربي، هو أشبه بعملية هروب من أصل وجوهر الأزمة القائمة، وتعبير عن ميل ونزوع نحو ايجاد مشجب ما لتعليق الأخطاء عليه، ودليل- في الوقت نفسه- على انعدام الرغبة والارادة الجدية في مواجهة المشكلة والتصدي لها، فالجامعة انعكاس أمين لحال أعضائها من الدول التي تختزل بالفرد الحاكم، أما لكي تكون جامعة الدول العربية فاعلة في مرحلة التغيير العربي، على دولها أن تؤمن قولاً وفعلاً بالمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة وتحقيق العدالة الاجتماعية،عدا عن ذلك ستبقى الجامعة سقيمة بسقم دولها.
وتأسيساً على ما تقدم وفي الذكرى السنوية لتأسيس جامعة الدول العربية -ولا ندري إن كنا سنتاولها في العام القادم في كتاباتنا أم لا-، أن لُب محنة جامعة الدول العربية لا تكمن في شكليات بمعنى أن الأمين العام يتبع أي جنسية عربية، ولا حتى في مدى ما يتمتع به من كفاءة إدارية أو مهارة ديبلوماسية، لكنها تكمن في صناع القرار العرب الذين أدت انقساماتهم وصراعاتهم -منذ نشأتها وإلى يومنا هذا- التي لا تعرف حدود إلى وصول الوطن العربي إلى ما هو عليه الآن من تبعثر وضياع. ولكي لا يصبح الأمين العام الجديد أحمد أبو الغيط أميناً مكلفاً بالإشراف على مراسم دفن جامعة الدول العربية، بدلاً من إنبعاثها، على الحكام العرب أن يفيقوا من حالة الغيبوبة التي يعيشونها، فإذا لم يتنبهوا إلى حجم المخاطر التي تحيق الآن بأمتهم فمتى يتنبهون؟
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية