شهد العام 1957 انبثاق هذا الحزب، في ظل فورة ظهور الأحزاب والكيانات السياسية في العراق، غير أن الغريب أن ينشأ حزب ديني طائفي في بغداد التي كانت شيوعيةً وقوميةً وبعثيةً، غير أنها لم تكن آنذاك قد تعرّفت بعد على عمامة الأحزاب الإسلامية. وبما أن القمع غالباً ما يولد التطرف، فإن الحزب سريعاً ما تبنى نظريات الصدام المسلح مع السلطات، على الرغم من أن مصادر تناولت تاريخ هذا الحزب أشارت إلى دور إيراني في تأسيسه، في إطار الصراع الجغرافي والسياسي بين العراق وإيران، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الحاكمة، حتى إن الحزب تعرّض للتجميد من إيران عقب تأسيسه، وبقي مجمداً سنوات في ظل تحسن العلاقات مع العراق، غير أن إقدام طهران على احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، وتنديد العراق بها، دفع إيران إلى تفعيل دور الحزب، وهذه المرة مع تسليح مباشر له.
تاريخ الحزب دموي بامتياز، فمنذ وصل الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979، وإعلانه نيته بتصدير الثورة تارة إلى الجوار العربي وتحرير القدس الذي يمر عبر كربلاء، وحزب الدعوة يقتل ويدمر ويفجر، فمنذ سفارة العراق في بيروت التي فجّرها الحزب عام 1981 وصولاً إلى تفجيرات الجامعة المستنصرية في بغداد، والتفجيرات التي قام بها الحزب في الخليج العربي، ثمة سجل بشع من الدموية والإجرام، لا يبدو أن قادة هذا الحزب بعيدون عن هذا التاريخ الدموي، وإن تحولوا قادة العراق بعد 2003.
اختارت أميركا للعراق حلفاء غير مؤذين، فمنذ أن أخذت صك غفرانها من مرجعية النجف بعدم مجابهة تلك القوات الغازية، ومنذ وقّع لها ساسة حزب الدعوة، وغيره من أحزاب المعارضة العراقية آنذاك، على شيك أبيض، وأميركا ترفض استبدال الوجوه التي جاءت بها عقب غزو العراق. وليس مصادفةً أن يكون منصب رئيس الوزراء، منذ أول حكومة عراقية عقب 2003 من حزب الدعوة، إذا ما استثنينا الفترة الانتقالية التي حكم بها إياد علاوي، ولم تتجاوز أشهراً قليلة، فأميركا ومعها إيران اتفقت، كعادتها بحسب سفير أميركا السابق زلماي خليل زاده في كتابه “المبعوث”، على أن يكون حزب الدعوة رأس رمح العملية السياسية في العراق، على الرغم من أن أميركا كانت، يوماً، تطارد قادة هذا الحزب بتهم الإرهاب. وفي ثلاثة عشر عاماً من حكم هذا الحزب، نجح خلالها في أن يسجل أبشع فشل في تاريخ الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق، منذ تأسيس المملكة العراقية عام 1921. وليس صعباً سرد سلسلة إنجازات الفشل التي حققها الحزب، فأكثر من 800 مليار دولار بدّدها الحزب وقادته منذ 2003، وبات الفساد مرادفاً للعراق الذي ظل يتربع على قائمة أكثر الدول فساداً طوال سنوات حكم حزب الدعوة، ناهيك عن فقدان نصف أراضي العراق لصالح تنظيم الدولة الإسلامية، وأشدد على أنه حكم حزب الدعوة، فقد ثبت، بالدليل القاطع، أن هذا الحزب مازال يمارس دور المعارضة المسلحة، وهو في السلطة.
جرّ فشل حزب الدعوة في الحكم الفشل إلى عموم الشيعة في العراق، فقد صار يُشار إلى فشل الشيعة في حكم العراق، وليس الى فشل هذا الحزب، وهو بالمطلق تعميمٌ ليس صحيحا، فقد عارضت كتل شيعية كبيرة وصغيرة ممارسات “الدعوة”، وخرجت تحركات احتجاجية عديدة ضد هذا الحزب الفاشل، ولا داعي للإشارة إلى تظاهرات السنة نحو عام بمنتهى السلمية، قبل أن يقمعها نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، وأحد أبطال حزب الدعوة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
هناك اليوم حركة اعتصام وتظاهر، يقودها تيار مقتدى الصدر، ظاهرها محاربة الفساد وإجراء الإصلاح المطلوب، وباطنها موجه ضد حزب الدعوة تحديداً. وقد أدرك الصدر، ومعه قيادات شيعية، أن استمرار حزب الدعوة تصدر المشهد السياسي في العراق جرّ، وسيجرُّ، على الشيعة ما لا طاقة لهم به، وبالتالي، صار عليهم أن يتحرّكوا، ربما حتى خارج التوافق الشيعي الذي اعتادوا عليه، منذ وضعت إيران يدها على كل الأحزاب الشيعية التي أسستها، والتي تأسست عقب 2003.
ما تسرّب من اجتماعات حزب الدعوة، بزعامة نوري المالكي، وبحضور رئيس الوزراء، حيدر العبادي، يفيد بأن هذا الحزب قد يرتكب حماقةً بحق المعتصمين، فبعد أن فتحت نقاط التفتيش أبوابها أمام المتظاهرين، الجمعة الماضية، باتجاه المنطقة الخضراء، قرّر العبادي إقالة قائد عمليات بغداد، وتكليف القيادة المشتركة بإدارة الملف الأمني لبغداد.
فشل حزب الدعوة فشلا مركباً، فهو مثل نموذجاً للفشل الإيراني في إدارة بلد مثل العراق، بعد أن وضعت إيران يدها عليه، برضا أميركي تام، وأيضا جرّ فشله فشلاً على الشيعة، بأنهم ليسوا أهلاً للحكم والإدارة، فما الذي يمكن أن يغيره مقتدى الصدر وأنصاره من هذه المعادلة؟ ذلك ما ستكشفه الأيام.