تعتبر الولايات المتحدة الأميركيةدولة ديمقراطية، إلا أن العقود القليلة الماضية، شهدت بروز أسئلة مهمة حول صياغة السياسة والميزانية المالية بطريقة تتعارض بشكل لافت مع مصالح وأولويات الطبقة الوسطى والعاملة. وعندما تتعارض مصالح الأغنياء مع مصالح الطبقة الوسطى، فإن الغلبة تكون على الأرجح للفئة الأولى.
يعمل مات غروسمان أستاذ السياسة ومدير معهد السياسة العامة والبحوث الاجتماعية في جامعة ولاية مشيغان على مشروع يعتمد على المعطيات التي توصل إليها الباحثان مارتن جيلينز وبنيامين بيج والتي كشفت حقائق صادمة العام الماضي، حيث توصلت في جانب منها إلى تحديد تأثير غياب المساواة في الفرص الاقتصادية على الرأي العام الأميركي. ويدرس غروسمان خمسين اقتراحا ترتكز على معطيات حول فئتي الأغنياء والناخبين العاديين لتحديد أي من الفئتين عرضة لتغيير توجهاتها أكثر من الأخرى.
وقال غروسمان في مقابلة أجريت معه “إن الكثير من الاختلافات في توجهات تيارات الرأي العام المصنفة حسب مستوى الدخل، تتعلق بالقضايا الأساسية مثل الضرائب وضوابط المال والأعمال والضمان الاجتماعي، وعندما يتعلق الأمر بهذه القضايا، فإن المواطنين الأغنياء هم الأكثر معارضة من الفقراء لسياسات جديدة تتعلق بإعادة التوزيع، وعادة ما تسير الأمور حسب ما يشتهي الأغنياء”.
فجوة كبيرة بين آراء الأغنياء وبقية الطبقات حول سياسات التوزيع (تحليل غروسمان) |
إن المجال الوحيد الذي لا يتمتع فيه الأغنياء بنفوذ ثابت هو وقف السياسات الاقتصادية الليبرالية والدفع باتجاه سياسات اجتماعية ليبرالية. ويبين الجدول التالي -الذي يحتوي على بيانات استندت إلى معطيات غروسمان- أن هناك فجوة كبيرة بين الآراء التي يبديها الأغنياء والطبقات الأخرى حول السياسات التي تتعلق بإعادة التوزيع.
ومن السياسات المدرجة في الجدول، واحدة فقط هي التي مررت خلال أربع سنين وهي اتفاقية التجارة الحرة لدول أميركا الشمالية، والتي يعارضها الناخبون من ذوي الدخل المتوسط والمتدني. من جهة أخرى، هناك ثلاث سياسات تتمتع بدعم الشرائح المتوسطة والدنيا وتعارضها طبقة الأغنياء -تتراوح بين قضايا رفع الضرائب وإجراءات السلامة في بيئة العمل- لم تقر أبدا. ويبين الجدول أن الأغنياء هم الأكثر ترددا فيما يتعلق بسياسات إعادة التوزيع.
كما يسلط الجدول الضوء على وجود حالة من الإصرار الواضح لإبقاء الوضع على ما هو عليه في مجال صناعة السياسة والقرار في الولايات المتحدة. ويشير غروسمان هنا بالقول “14 فقط من الخمسين اقتراحا تم تبنيها، وكان الأغنياء أكثر دعما من الطبقة الوسطى لأكثر من نصف المقترحات”.
وبالنظر إلى خارطة المعلومات التي تم التوصل إليها، يشير غروسمان أنه حتى في حالة وجود دعم كبير من الرأي العام لتغيير سياسة معينة، فإن نسبة النجاح في تغيير السياسات القائمة لم تتعد 43%، وفي الحقيقة فإن بقاء الوضع على ما هو عليه يخدم مصالح الأغنياء بشكل رئيسي.
وتبين المعطيات أن برامج إقرار السياسات موضوعة بشكل يخدم نفوذ الأغنياء، وقد اختفت تماما من تلك البرامج قضايا تهم الطبقتين الوسطى والفقيرة. فمن الواضح -مثلا- أن المقترح الذي يطالب رب العمل بإعطاء إشعار مسبق لمستخدميه قبل إغلاق مكان العمل بسنة كاملة، والذي أثير عام 1985، لم يعد مطروحا للمناقشة رغم أنه حصل على تأييد 72% من الذين استطلعت آراؤهم من أصحاب الدخل المتوسط.
ورغم أن 67% من المستطلعة آراؤهم دعموا “تكوين شركة نفطية مملوكة ومشغلة من قبل الحكومة لضمان صدق شركات نفط القطاع الخاص في مجال الأسعار والعمليات” إلا أن هذا الموضوع اختفى تماما من الحوارات المتعلقة بقضايا الرأي العام. ونسبة إلى بول برشتاين (الأستاذ في علم الاجتماع في جامعة واشنطن)، فإنه ببساطة لا توجد أي معطيات حول توجهات الرأي العام بشأن الكثير من القضايا التي يقرها الكونغرس الأميركي.
“وجدت دراسة شاملة نفذها غروسمان أن نسبة السياسات التي تغيرت بناء على رغبات الرأي العام لم تتجاوز 25% من مجمل السياسات التي تغيرت أو تبدلت منذ عام 1945. أما التغييرات التي نفذت نتيجة نفوذ مجموعات الضغط فقد بلغت 49%، فيما بلغت تلك التي نفذت بناء على استخدام الرؤساء الأميركيين لنفوذهم السياسي 60%”
وقد وجدت الدراسة الشاملة التي نفذها غروسمان أن نسبة السياسات التي تغيرت بناء على رغبات الرأي العام لم تتجاوز 25% من مجمل السياسات التي تغيرت أو تبدلت منذ عام 1945. أما التغييرات التي نفذت نتيجة نفوذ مجموعات الضغط (اللوبيات) فقد بلغت 49%، فيما بلغت تلك التي نفذت بناء على استخدام الرؤساء الأميركيين لنفوذهم السياسي 60%.
لماذا؟ أولا، لأن الرأي العام متذبذب وخاصة بين طبقة ذوي الدخول المنخفضة، أما الأغنياء فاتجاهاتهم مستقرة في اتجاه واحد يعارضه أصحاب الدخول المتوسطة على الدوام وبشكل ثابت، وهذا يعني أن اتجاهات أصحاب الدخول المنخفضة تتأرجح بين تأييد مصالح الأغنياء تارة والانضمام لمعارضة أصحاب الدخل المتوسط تارة أخرى.
ويعزو الخبيران في العلوم السياسية جوزيف دانييل أورا وكريستوفر إيليس التذبذب في اتجاهات طبقة منخفضي الدخل إلى تأثرهم بمصالح طبقات معينة عندما يتعلق الأمر بحجم الحكومة، وهذا يعني أن أصحاب الدخول المرتفعة يتمتعون بآراء أوضح وأكثر تحديدا.
ثانيا، ضمور نشاط النقابات المهنية جعل الأميركيين من منخفضي الدخل يواجهون صعوبة في تحديد السياسات التي تصب في صالحهم والضغط باتجاهها. وقد أثبت ذلك الخبيران في العلوم السياسية توربين آيفرسين وديفد سوسكي في دراسة قاما بها مؤخرا، وأظهرت أن المواطنين الأميركيين من ذوي الدخول المنخفضة والذين لا يتمتعون بخلفية سياسية وليسوا أعضاء في نقابات مهنية، يتجهون غالبا لتأييد أحزاب اليمين (أحزاب الأغنياء) وبنسبة أكبر من أولئك المنتمين للنقابات المهنية والذين يتمتعون بخلفية سياسية.
إن هذا الاتجاه يؤكد ما توصلت إليه دراسة أخرى قام بها أنثوني فاولر ومايكل مارغوليس والتي وجدت أن إيصال المعلومات للرأي العام حول الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشكل منتظم وموضوعي يؤدي في الغالب إلى دفع الرأي العام باتجاه الحزب الديمقراطي.
وأخيرا، هناك قناعة كافية للاعتقاد بأن العرق -والذي يرتبط بالطبقة الاجتماعية بشكل متين في الولايات المتحدة- قد يلعب دورا في تحقيق التمثيل السياسي. ويعتقد الخبير المعروف في تحليل اتجاهات الرأي العام جيمس ستيمسون، أن العرق يمكن أن يكون وراء كثير من الفجوات في تحديد الأولويات السياسية.
وقد توصلت دراسة حديثة اعتمدت على المعطيات التي توصل إليها جيلينز أن السكان المنحدرين من العرق الأبيض يحصلون على تمثيل سياسي أكبر من نظرائهم من غير البيض، وهو رأي أيدته دراسات عديدة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة تمتع أصحاب الدخل المرتفع بفرصة أعلى للإدلاء بأصواتهم والاتصال بالممثلين السياسيين، يجعل فرصتهم أعلى في الحصول على تمثيل سياسي حقيقي من الطبقات الأخرى.
“هناك قناعة كافية للاعتقاد بأن العرق -والذي يرتبط بالطبقة الاجتماعية بشكل متين في الولايات المتحدة- قد يلعب دورا في تحقيق التمثيل السياسي. ويعتقد الخبير المعروف في تحليل اتجاهات الرأي العام جيمس ستيمسون، أن العرق يمكن أن يكون وراء كثير من الفجوات في تحديد الأولويات السياسية”
ومن المؤكد أن هناك دراسات تفيد أن الناخبين يمكن أن يؤثروا في عملية التشريع، ولعل الدراسة التي قام بها مؤخرا جيف سمث العضو السابق في مجلس الشيوخ الأميركي والذي يعمل حاليا أستاذا مساعدا للعلوم السياسية في معهد ميلانو للشؤون الدولية خير مثال على ذلك، حيث أوضحت أن الاتصالات التي تأتي من الناخبين تؤثر في عملية التشريع، وأن نفوذ الأغنياء له اليد العليا. فبينما بلغت نسبة اتصال وتواصل المواطنين الذي يقل دخلهم عن 30 ألف دولار سنويا مع المسؤولين الحكوميين 21%، فإن نسبة تواصل المواطنين الذين يزيد دخلهم السنوي عن 150 ألف دولار سنويا قد بلغت 49%.
وطبقا لمسح صمم لتحليل الفعاليات والأنشطة السياسية، فإن أكثر من نصف طبقة نخبة النخبة التي تبلغ نسبتها 1% يتصلون بالمسؤولين الحكوميين، وغالبا ما يتم الرد على اتصالاتهم، وهذا ما يفسر ما توصلت إليه دراسة تفيد أن صانعي السياسات يعتقدون بشكل كبير أن ناخبيهم من الأغنياء هم في الحقيقة محافظون أكثر مما تكشفه استطلاعات الرأي، وهم في الغالب أكثر احتمالا للتواصل مع المسؤولين الحكوميين.
باختصار، فإن السياسة منحازة للأغنياء. وبتشخيص طريقة وآليات الانحياز يمكن تحديد طرق العلاج من هذا التوجه، حيث من الواضح أن ضعف التعبئة المؤثرة -في مجالي التصويت والأنشطة السياسية- هو عامل أساسي للافتقار للتمثيل السياسي المناسب. من جهة أخرى، فإن النفوذ الطاغي للطبقة المانحة على حملات المرشحين السياسيين يساهم في تعطيل فرص المساواة في الحصول على التمثيل السياسي المناسب.
هناك الكثير من الحلول المحتملة مثل نظام تسجيل الناخبين الأوتوماتيكي والذي من شأنه تقليل عوائق المشاركة في العملية الانتخابية. وقد نفذ هذا النظام فعلا في ولاية أوريغون التي أضافت عشرة آلاف صوت انتخابي منذ بداية العام الجاري، ومن المتوقع أن تتبعها ولايات أخرى.
من جهة أخرى، فإن نقابات مهنية تتمتع بحضور أقوى من شأنها تحقيق نجاح أكبر في الدفع باتجاه سياسات تصب في مصلحة الطبقة العاملة والمتوسطة. وأخيرا، فإن استحداث نظام للتمويل الشعبي للانتخابات قد ينتج تنوعا أكبر في نوعية المانحين.
شين ماكليوي
الجزيرة نت