هذا مقال تاريخي كاشف لجذور الواقع يتحدث عن فترة عصيبة في تاريخ سوريا الحديث، فترة وقع فيها الانقلاب العسكري الذي قاده ضباط من الناصريين والبعثيين في 8 مارس/آذار عام 1963.
ولعل خطورة هذا الانقلاب تتمثل في أنه أتى بالبعثيين إلى الحكم ومن ثم بحافظ الأسد وبالحكم الطائفي الذي أفسد الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، عدا عن محاربته للدين ولعلماء الإسلام.
سنتوقف مع بعض التفاصيل الممهدة لانقلاب الثامن من مارس/آذار، وأعلم مسبقا أن بعض الناس سيتهمونني بالسعي لإرجاعهم إلى الماضي بينما يجب أن يعيشوا الحاضر، وهو خطأ بين، لأن الماضي بوابة عبور نحو المستقبل، وإذا كان ذكر التاريخ لا يستفاد منه، فلماذا ذكر القرآن الكريم قصص الأنبياء السابقين وما جرى لهم مع أقوامهم؟
في عام 1958 أعلنت الوحدة الكاملة بين سوريا ومصر، وتنازل الرئيس السوري شكري القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر وأصبح الأخير هو رئيس الكيان الموحد، لم تدرس خطوات هذه الوحدة بشكل متأن، وحصلت أخطاء كثيرة لامجال لذكرها في هذه العجالة، ولكنها أدت في نهاية المطاف إلى انفصام عرى الوحدة بين البلدين، حيث انفصلت سوريا عن مصر ورجعت إلى عهدها السابق، ووقعت حادثة الانفصال بالانقلاب العسكري الذي قاده العقيد عبد الكريم النحلاوي في 28 سبتمبر/أيلول 1961، بعد وحدة دامت ثلاث سنوات (1958- 1961).
“تتمثل خطورة انقلاب الثامن من مارس/آذار الذي قاده ضباط من الناصريين والبعثيين في أنه أتى بالبعثيين إلى الحكم، ومن ثم بحافظ الأسد وبالحكم الطائفي الذي أفسد الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، فضلا عن محاربته للدين ولعلماء الإسلام”
وقد سميت الفترة ما بين 1961 -1963 (أي فترة ما قبل انقلاب 8 مارس/آذار 1963) بفترة الانفصال، وتميزت فيها الحياة السياسية بالحرية وعودة النشاط الإسلامي إلى عهده الأول، ففي عهد الوحدة منع العمل الحزبي، وكأن الحركة الإسلامية اعتبرت نفسها حزبا فأوقفت نشاطها. وقد كانت الأجواء في هذه الفترة (الانفصال) مهيأة للإصلاح بوجود الحرية، وأظن أنها كانت فرصة لم تستثمر كما يجب.
هذا من ناحية الدعوة والعمل الإسلامي، أما من الناحية السياسية فقد رجعت سوريا مع الأسف إلى الحالة التقليدية، الشخصيات السياسية نفسها، الأحزاب نفسها، المناكفة السياسية والعصبية الحزبية، الحزب الوطني وحزب الشعب كأحزاب تقليدية، مع وجود سياسي وعسكري قوي لحزب البعث المؤدلج، خاصة جناح أكرم الحوراني، كما رجعت العصبية “المدينية” بين حلب ودمشق.
وتلك عوامل أدت إلى ضعف الحكومات “البرجوازية” وجعلت من سوريا بلدا ضعيفا أمام المؤامرات الخارجية والداخلية، بعيدا عن الاستقرار رغم ما يتمتع به من حيوية ونشاط، في ظل سيادة منطق يقول إن استمرار أجواء الحرية سيؤدي لتصدر من يجعل من سوريا بلدا مستقلا سياسيا وقويا اقتصاديا.
لم تُسرح حكومات هذه الفترة (الانفصال) الضباط المناوئين لها أو المناوئين لتوجهها أو المنغمسين في الحزبية والطائفية، ولم تتجرأ على خطوة كهذه حتى تأمن شر الانقلابات العسكرية، وبالتالي بقي الضباط البعثيون والناصريون والطائفيون في أماكنهم.
حاول الناصريون العودة إلى الوحدة بالقوة فتمرد بعض الضباط في حلب ولكن حركتهم فشلت، واستغل البعثيون والناصريون هذا الحدث وبدأ التهويل بالقول إن سوريا على وشك الانقسام بين حلب ودمشق أو الشمال والجنوب، مما أدى لعقد مؤتمر حمص لتسوية الأمور، حيث كان من قراراته أن يخرج من سوريا أصحاب انقلاب سبتمبر/أيلول الذي أنهى عهد الوحدة، ونتيجة لذلك خرج عبد الكريم النحلاوي من سوريا.. كان الأمر خطأ جسيما، وشكل بداية للتراجع، وأثار أسئلة عن لماذا يقبل الذين قاموا بانقلاب على عهد عبد الناصر أن يخرجوا من بلدهم ويتركوا الأمور وهي في غاية الغموض والضبابية؟
كان العقيد مطيع السمان يحث الرئيس ناظم القدسي على عزل عبد الكريم زهر الدين عن قيادة الجيش ووزارة الدفاع، ولكنه لم يتجرأ على ذلك، وعندما اقتنع وأراد عزله كانت الأمور قد خرجت عن السيطرة.
يقول خالد العظم لم يبق هذا القرار في مخيلته إلا لبضع ساعات، فبسبب الضعف والتردد بدأ العد التنازلي، وبدأت السماء تتلبد بسحب سوداء، كان هناك إحساس بأن شيئا يدبر ويخطط له وأنه سيقع، كانت الحكومة تنتظر حتفها ولم تقم بأي حركة، وكنا نسمع ونحن طلابا نهتم بالأمور السياسية أن هناك حركة من بعض الضباط الوطنيين الذين يتخوفون من وقوع البلد بأيدي البعثيين، وأن هذه الحركة بقيادة ضابط اسمه صدقي العطار، وأن هذه المجموعة أحست بما يدبر في الخفاء فقررت قطع الطريق على البعثيين والناصريين.
ولذلك اتصلوا بالأستاذ عصام العطار ليسألوه المشورة والدعم، ولكن الأستاذ عصام رفض الفكرة لأنه لا يؤيد الانقلابات العسكرية، ولأن الإخوان غير مستعدين لهذه الأمور الآن، أما رئيس الجمهورية ناظم القدسي فقد أحس بما يدور بين صدقي العطار وزملائه فطلب منهم ألا يقوموا بأي عمل.
هذا ما كنا نسمع يومها، وبقيت القضية تؤرقني وأحب أن أسمع الرواية الصحيحة، إلى أن جاءت الفرصة المواتية عندما كنت في زيارة لأميركاوالتقيت في منزل الأستاذ نزار البرازي في مدينة “آن آربر” بالعقيد عبد الكريم النحلاوي قائد الانقلاب الذي أنهى عهد الوحدة (كان انقلابا دمشقيا فكل الضباط الذين كانوا معه من دمشق).
سألت النحلاوي عن حركة صدقي العطار فقال: هذا ضابط أساء كثيرا إلى سوريا، فقد كنا متفقين على إزاحة عبد الكريم زهر الدين (وزير الدفاع في عهد الانفصال وهو درزي) وكان العطار في اللواء 72 في “قطنا”، وبعد الاتفاق على اليوم المحدد ذهب في اليوم السابق على الموعد وأبلغ زهر الدين بما يدبر، وأكد له عدم مشاركته فيه.
“في عام 1958 أعلنت الوحدة الكاملة بين سوريا ومصر، وتنازل الرئيس السوري شكري القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر وأصبح الأخير رئيسا للكيان الموحد. لم تدرس خطوات هذه الوحدة بشكل متأن، وحصلت أخطاء كثيرة لامجال لذكرها الآن، ولكنها أدت في النهاية إلى انفصام عرى الوحدة بين البلدين “
وتابع النحلاوي، وفي اجتماع في القصر الجمهوري برئاسة القدسي قال لي زهر الدين أرجو أن تهدأ الشباب في قطنا، قلت له أنا الآن لست عسكريا وأنت لا تستحق هذا المنصب. وهنا اعتذر النحلاوي عن خطئه وخطأ زملائه حين أتوا بزهر الدين إلى رئاسة الأركان، مبديا شعوره بالندم على الثقة بالضباط الطائفيين.
سألته كيف تكون القوة بأيديكم ثم تتركونها؟ قال: لم تكن نية الانفصال قائمة، بل كان الهدف إصلاح الأوضاع، ولكن عبد الناصر رفض أي محاولة للإصلاح فتم الانفصال، وكنا كذلك نريد إعادة الديمقراطية إلى سوريا وإبعاد العسكر عن السياسة، وبدأنا البحث عن رئيس للجمهورية، فطلبنا من رشدي الكيخيا (رئيس حزب الشعب) فلم يقبل، فعرضنا الأمر على عبد القادر الأسود (رئيس المحكمة العليا في سوريا وقتها) فاعتذر، ثم استقر الرأي على ناظم القدسي.
يضيف طلبنا منه (ناظم القدسي) تكليف سعيد الغزي بتشكيل الوزارة، وهو ما قام به فعلا، حيث استدعاه وحدد له أسماء الوزراء فلم يقبل الغزي واعتذر، فكُلف معروف الدواليبي، وشكلت الوزارة من شخصيات لا نريدها، كنا نريد وزارة من وجوه جديدة ومن الشباب خاصة. قلت له كأنك تريد القول إنكم خدعتم من القدسي والدواليبي، قال نعم السياسيون خربوا كل شيء.
هذه رواية النحلاوي عن حركة صدقي العطار ولماذا قامت بانقلاب 28 سبتمبر/أيلول1961، وقد سألت الأستاذ عصام العطار عن هذا الموضوع فقال، لقد طلبت من صدقي أن يجمع حوله شبابا من الكلية العسكرية يكونون معه ولم نطلب منه أن يقوم بانقلاب عسكري، وأضاف العطار كانت عند صدقي تحركات، فطلب مني ناظم القدسي أن أتدخل ولم أتدخل ولم أطلب من صدقي شيئا.
وقد التقيت في عمان الأستاذ عدنان سعد الدين (رحمه الله) بتاريخ 05/09/2004، وسألته عن صدقي العطار، فقال “صدقي كان يريد غطاء سياسيا لعمل يقوم به، ولكن عندما لم يجد الغطاء استسلم وفشل”.
وبعد أن قرأت مذكرات العقيد مطيع السمان (قائد قوى الأمن الداخلي في تلك الفترة) تأكد لي أن حركة ضباط “قطنا” صحيحة ولم يذكر اسم صدقي العطار، ولكنه قال “طلب مني الرئيس القدسي أن أذهب إلى معسكرات قطنا وأخبره بما يجري هناك، وقد شاهدت رتلا من الدبابات والآليات جاهزة للحركة، وقال لي ضباط هذا المعسكر إن حالة الجيش لا تطاق في ظل القيادة الحالية، وقد أبعد الضباط الشرفاء ونطالب بعودتهم.
ويتابع العقيد السمان، واتفق الرأي على معاقبة ضباط قطنا، وكلهم من دمشق ومن صغار الرتب، وكان هذا القرار من أكبر الأخطاء، وخلت الساحة أمام غيرهم ليفعلوا فعلتهم.
طبعا يقصد العقيد السمان انقلاب 8 مارس/آذار وكلامه يؤكد لي مرة ثانية أن ما كنا نسمعه من أن هؤلاء الضباط كانوا على خوف وترقب من أن يسبقهم البعثيون والناصريون ويقوموا بانقلاب ويستلموا البلد، خاصة وأن الحكومة ضعيفة.
في هذه الأجواء المتراخية الخائفة كان من السهل أن يلتقي أمثال زياد الحريري وراشد قطيني ولؤي الأتاسي وغيرهم من الناصريين والبعثيين ويقوموا بانقلاب 8 مارس/آذار على الحكومة الضعيفة التي تمارس الديمقراطية الرخوة.
وقد سرق البعثيون هذا الانقلاب وأبعدوا الناصريين الذين يعانون من سذاجة لا يحسدون عليها، وكُلف صلاح البيطار بتشكيل الوزارة لأنه ممن عارض الانفصال عن مصر، واستدعى البيطار الضابط البعثي أمين الحافظ الذي كان ملحقا عسكريا بالسفارة السورية في الأرجنتين ليكون وزيرا للداخلية، ثم تدرج بسرعة فائقة حتى صار رئيسا للجمهورية واستخدمه الضباط العلويون كواجهة، وسرق هؤلاء الضباط الانقلاب من البعثيين عام 1966، وأبعد قادة البعث عن سوريا فذهبوا إلى العراق ووقعت سوريا وشعبها العربي المسلم تحت الحكم الطائفي الحاقد على العروبة والإسلام.
أحداث خطيرة وقعت بعد هذا الانقلاب، حيث عاشت سوريا بعده عشرات السنين والحكم الطائفي يمعن في تخريبها ثقافيا وأخلاقيا واقتصاديا، حارب الدين واضطهد العلماء والدعاة وقضى على خيرة شباب سوريا في أحداث 01979- 1982، أما ما جرى بعد ثورة 2011 فله حديث آخر.
ماذا نستفيد نحن الآن وفي ظروفنا الحالية حتى لا يكون حديثنا من باب الترف الفكري أو من باب اجترار الماضي.
“إن من أكبر أسباب الكارثة التي حلت بالشعب السوري هي الغفلة والتراخي مع حكم العسكر، خصوصا إذا كان هذا العسكر من طائفة معينة تعتقد أن لها ثأرا مع أكثرية الشعب، فهي تمعن في إذلاله وإضعافه، وتحول سوريا إلى بقرة حلوب للضباط الملتفين حول حافظ الأسد”
إن من أكبر أسباب هذه الكارثة التي حلت بالشعب السوري هي الغفلة والتراخي مع حكم العسكر، خصوصا إذا كان هذا العسكر من طائفة معينة تعتقد أن لها ثأرا مع أكثرية الشعب، فهي تمعن في إذلاله وإضعافه، وتحول سوريا إلى بقرة حلوب للضباط الملتفين حول حافظ الأسد.
ومن أسباب هذه الكارثة أيضا التخلي عن الهوية الإسلامية إرضاء لبعض الطوائف، أو بحجة الوطنية الجامعة لكل المذاهب والعقائد، والحال أن هذه الوطنية فشلت أمام الحقد الطائفي، حيث كان الشعار الذي رفع بعد سقوط الدولة العثمانية ودخول بلاد الشام تحت مظلة اتفاقية سايكس بيكو هو “الدين لله والوطن للجميع”، وهو ما يعني إبعاد الدين عن الواقع.
ومن الأسباب تلك الليبرالية والديمقراطية الرخوة التي لا تستطيع أن تتخذ قرارا، ولا تمتلك رؤية حقيقية لواقع سوريا وموقعها، تلك المناكفات السياسية التي لا تنتهي.
والواقع أن تلك الفترة من تاريخ سوريا وإن كانت قصيرة، إلا أنها لم تستثمر كما يجب دعويا وسياسيا رغم أجواء الحريات المفتوحة.. ألا يستحق الأمر توقفا وتحديدا للمسؤوليات ومعرفة من يقف خلف ذلك وخلف الكوارث التي حلت بسوريا خلال تلك الفترة وما بعدها؟
هل نستفيد من أخطائنا السابقة، هل نخجل من إظهار مبادئنا بسبب من هو غير مقتنع بهذه المبادئ وهو موجود في الثورة؟ لماذا لا يقال له ولأمثاله إن العدل سيشمل الجميع وفي كل الحالات، هل ستخسر الأكثرية إرضاء لأناس من الأقلية؟ تلك أمور كثيرة نستفيد منها ومن غيرها إذا قمنا بمراجعات لتاريخنا الحديث، حتى لا تتكرر المأساة.
لقد تعبت سوريا من الأحزاب التقليدية ومن الأحزاب التي تخالف عقيدة أكثرية الشعب مثل حزب البعث أو القومي السوري أو من يسمون أنفسهم بالناصريين.
كانت تجربة مرة أن تتحكم الأقلية في الأكثرية، وأن يظهر على الساحة السياسية من هو بعيد جدا عن هوية الأمة وثقافتها، ولعل هذه الثورة المباركة في ذكراها الخامسة تمحص الصفوف وتعيد الأمور إلى نصابها والحق إلى أهله.
محمد العبده
الجزيرة نت