«اليوم الأسود» في بروكسيل لن يكون الأخير في أوروبا. هذا ما تشي به حملات المطاردة لخلايا نائمة ومشبوهين في عواصم القارة ومدنها. وهذا ما حذرت منه أجهزة الأمن الغربية. بل إن رفع وتيرة الحرب على «دولة الخلافة» في العراق وسورية ستدفع الحركات الإرهابية كلها إلى توسيع دائرة عملياتها الخارجية في قلب الاتحاد وخارجه. ولا يحتاج «داعش» إلى إرسال مقاتلين من الخارج. في القارة العجوز ما يكفي ويفيض. أكثر من خمسة آلاف خرجوا من مدنها إلى سورية والعراق، إلى جانب آخرين من كل أنحاء العالم. وقد عاد منهم المئات، فيما يعيش مئات في ضواحي هذه المدن وشوارعها. أن يضرب الإرهاب قلب أوروبا أمر يختلف عن عملياته التي وزعها في كثير من الدول والقارات، من إندونسيا وباكستان إلى تركيا ومصر ودول أفريقية أخرى وحتى الولايات المتحدة. بعض تلك العمليات اتخذ طابع المنافسة مع «القاعدة». وبعضها الآخر ثأراً وانتقاماً من حكومات بعينها، أو تعزيزاً لبروباغندا تستهدف الترويج لأفكار التنظيم وتجنيد مزيد من العناصر «الجهادية».
جاءت الضربات الإرهابية في بروكسيل فيما كانت أوروبا تحاول معالجة تداعيات الجرائم التي ارتكبت في باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. كانت تجهد للحفاظ على حدودها المفتوحة، وللحد من تدفق اللاجئين. وهذان الهدفان هما اليوم أسهل الضحايا. ستزداد الضغوط على هذه الحدود. وسيدفع اقتصاد القارة والاقتصاد الدولي ثمناً باهظاً، إذا غلبت أجواء الرعب والخوف من الخلايا النائمة و «الذئاب المنفردة». وقد تتبدد آمال المجلس الأوروبي الذي أقر أخيراً خطة طارئة للحفاظ على «فضاء شنغن» وإزالة كل القيود بين الدول الـ 26 مع نهاية السنة الحالية، وإذا اكتفت حكومات الاتحاد بسياسة ترف البحث عن حلول آنية. أو إذا رضخت واستسلمت أمام قيام جدران وإقفال معابر في إطار جبهة رفض بعض دولها التزام سياسة واحدة حيال توزيع أو استقبال اللاجئين ودمجهم في مجتمعاتها. ففي مثل هذا الرضوخ شيء من التخلي عن مفهوم الوحدة، ما يهدد الاتحاد ومستقبله. أو إذا صمّت آذانها عن نفخ قوى وأحزاب في المشاعر القومية، وتعزيز الكراهية للجاليات العربية والإسلامية، على حساب الانفتاح والتعددية والحرية وقبول الآخر وإن كان من خارج القارة. فليس أسهل من مسايرة النخب الحاكمة لهذه القوى ومغازلة جمهورها ذي النزعة الانعزالية لئلا نقول العنصرية الفجة.
أوروبا أمام خيارين: إما العودة إلى الوراء، إلى الدولة القومية. وإما إعلاء شأن الاتحاد ومؤسساته، السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية، تمهيداً لاعتماد استراتيجية تواجه التحديات الداخلية والخارجية. وهذه كثيرة وعلى رأسها هذا الوحش الإرهابي الذي يزرع الرعب والفوضى في كل مكان. بالطبع ثمة مبالغة في الحديث عن «حرب أهلية» قد تنجرف إليها القارة. مثلما ثمة مبالغة في إلقاء النخب والأحزاب الحاكمة اللوم على الخارج، للحفاظ على قواعدها من هجمة اليمين القومي المتطرف الذي بدأ يستغل هذه الأحداث، من دول أوروبا الشرقية إلى بريطانيا. لقد كشفت العمليات الإرهابية في فرنسا وبروكسيل عجز الاتحاد عن مواجهة تهديدات خارجية وداخلية. ورفع التحدي لا ينفع فيه تعزيز الميل إلى تقييد الحريات. ولا رفع وتيرة النزعة المعادية للجاليات الأجنبية، من أفريقيا وآسيا والعالم العربي أو الإسلامي. ولا الدعوات إلى رفض الهاربين من الجحيم السوري أو غيره من نيران الشرق الأوسط والشمال الأفريقي. هذه النزعة والدعوات تخدم الإرهابيين الساعين إلى الصدام بين الإسلام والغرب. فلو صح أن الإرهابيين يأتون فقط من خارج الحدود لكان منطقياً أن يسعى الغرب إلى حماية حدوده. لكن هؤلاء القتلة مواطنون من أوروبا وروسيا ومن كل قارات الأرض توجهوا إلى «دولة الخلافة» ليعززوا قواعد التنظيم الإرهابي. وبعضهم يعود بعدما اكتسب خبرات قتالية حقيقية. المهم ألا تنساق حكومات الاتحاد وراء ما ينشده «داعش» الذي يعمل على تقديم الجاليات الإسلامية «ضحية العنصرية» الغربية ليقدم نفسه الحامي الوحيد لها. فيسهل عندئذ تجنيد المزيد من الخائفين أو «المضطهدين» والمهمشين واليائسين…
ورفع التحدي ليس بإقامة الحدود والجدران بين دول القارة. أو بالدعوة إلى التقوقع والخروج من الاتحاد. مثل هذه التدابير والإجراءات لا يجعل أوروبا أكثر أمناً. ولا يحميها من هذه الذئاب القاتلة. والإجرام الذي ضرب بروكسيل قد يتكرر في أي عاصمة أو مدينة أوروبية، إذا لم تبدل هذه العواصم في سياساتها وإجراءاتها. وإذا لم تعزز من أدوات التنسيق وتبادل المعلومات الأمنية. وإذا لم تنخرط جدياً في الحرب على الإرهاب. والأهم من كل ذلك إذا لم تتقدم لأداء دورها في معالجة أسباب نمو الإرهاب، سواء في ضواحيها التي تحول بعضها غيتوات لا علاقة لها بالمجتمعات الغربية وقيمها وطرق عيشها وعملها، أو بعيداً خارج حدود القارة. أي في ليبيا وسورية والعراق وغيرها من الساحات التي تعصف بها أزمات تغذي التطرف وتشكل بيئات حاضنة له. الخلايا الناشطة وتلك النائمة لا تسمح بترف مواصلة الجدل عن تنسيق أو تراخ هنا، أو إلقاء اللوم على المهاجرين هرباً من جحيم الحروب في الشرق الأوسط. هناك نقص فاضح في تبادل المعلومات والتنسيق، باعتراف كبار المسؤولين الأوروبيين. هناك انعدام ثقة. وحتى منظمة «يوروبول» تحتاج إلى تفعيل حقيقي، إذ لا يمكن دولة بمفردها ضمان أمنها. المطلوب عمل مشترك. لا بد من توحيد بنوك معلوماتها والتعاون الدقيق والعميق في كل ما يتعلق بالأمن وحركة العناصر المشبوهة. وإن اضطرها الأمر لتعديل بعض القوانين القضائية المتعلقة بالتوقيف والاحتجاز. مع ما في ذلك من عودة عن قوانين ترسخ مفاهيم الحرية الفردية.
كان الرئيس باراك أوباما مصيباً في مقابلته مع «ذي أتلانتيك». أخذ على الأوروبيين إفادتهم من القوة الأميركية. وحضهم على الاعتماد على أنفسهم في حماية مصالحهم الأمنية للحفاظ على الاستقرار في القارة والليبرالية والديموقراطية. لم يعد من معنى لأن يلوم القادة الأوروبيون واشنطن على تخليها وعزوفها عن التدخل الميداني في الشرق الأوسط. أوروبا هي ساحة المواجهة مع «داعش» والإرهاب عموماً، وعليها إذاً أن ترد على التحدي بقدراتها الذاتية وليس بانتظار أميركا أو روسيا، أو بإلقاء اللوم على الشركاء في «الناتو» أو بعض قوى الاتحاد. أي أن على دول الاتحاد أن تنخرط جدياً في مواجهة الإرهاب، في كل ميادين المواجهة العسكرية وغيرها. والذهاب إلى البحث عن حلول سياسية عاجلة للأزمات التي تدمر دولاً ومجتمعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشكل مرتعاً وقبلة للجهاديين والتكفيريين. فهل يعقل أن تعجز دول جنوب أوروبا المطلّة على ليبيا وتلك التي تجاورها حدوداً، أو أن تتردد في فرض حكومة في طرابلس يمكنها التعامل مع المجتمع الدولي لتسهيل انخراط أممي في محاربة «داعش» الليبي ومثيلاته؟ لم يعد مفيداً للاتحاد الأوروبي أن يترك الأمر للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «الدولة الإسلامية». عليه أن يتبنى استراتيجة خاصة به، وأن ينخرط في أزمات المنطقة كلها. إنها فرصة لأداء دور فاعل في السياسة الدولية.
لو بادرت أوروبا وأميركا وروسيا والقوى الإقليمية المعنية إلى تسوية النزاع السياسي في العراق. وساهمت في وقف الحرب السورية لما كان العالم شهد ولادة «داعش» وأمثاله في هذين البلدين. ولو كان التدخل في ليبيا استمر حتى قيام نظام جديد لما وجدت قوى التطرف مرتعاً لها في الشمال الأفريقي. والحق أن مسؤولية الاتحاد الأوروبي كبيرة ومفصلية. لكنها يجب ألا تحجب مسؤولية الآخرين. ولا شك في أن انعدام التوافق على استراتيجية واحدة بين كل المشاركين في الحرب على «دولة الخلافة»، وانعدام الرؤية الواحدة لما بعد القضاء عليها، ليسا السببين الوحيدين اللذين يمدان بعمر الدولة. بين أبرز العقبات أن التنظيم يفيد من تعثر التسويات، خصوصاً في العراق وسورية وليبيا واليمن. تضارب الأهداف بين أبرز الأسباب. ويعول «أبو بكر البغدادي» على تغذية النزاع المذهبي في الإقليم، ومن الحضور الإيراني الطاغي عبر القوى والميليشيات الشيعية. لذا، لا بد من أن يظهر المجتمع الدولي تصميماً مشتركاً على شن حملة واحدة على «داعش». وأن يلاقي التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده السعودية. أو أن يلاقي «المجلس الأميركي – الخليجي» للتنسيق في محاربة الإرهاب. فلا يصح أن يكتفي بعض القوى العربية والإسلامية بالتلطي وراء نظرية «المؤامرة» الأجنبية أو «الصليبية» على العرب أو المسلمين. مثل هذا الشعار وقود لتجنيد المزيد من المقاتلين في صفوف حاملي رايات القتل والذبح والهدم.
إن الاستعداد العسكري لتحرير نينوى وما بقي من الأنبار، وتحرير تدمر ودير الزور ثم الرقة بداية ليست كافية، ما لم تقترن بتحرك سياسي. على إيران أن تكف عن دفع «حشدها الشعبي» في العراق إلى تهديد قوات «المارينز» التي تساعد القوات الحكومية. وأن تساهم في تسوية ترفع الظلم عن أهل السنّة. وعلى روسيا ألا تتوقف عند حدود ما قدمت إلى النظام في دمشق. عليها أن تساهم في تسوية للأزمة السورية ترضي أطياف المعارضة وتحقق التغيير الحقيقي المطلوب بدل التلويح بدولة اتحادية تشعر معها الغالبية بالحيف والظلم… وحدها القوة العسكرية ليست كافية للقضاء على الإرهاب. منذ «غزوتي نيويورك وواشنطن» والعالم ينادي بأن الحل لمواجهة الإرهاب والقضاء عليه لا يقتصر على الجانب العسكري، على رغم أنه اليوم أولوية لتفكيك دولة «الخلافة في العراق والشام». لكن شيئاً من هذا لم يحصل. فلا غزو أفغانستان اقتلع الإرهاب من هذا البلد ودول الجوار. ولا القضاء على «دولة أبي مصعب الزرقاوي» حال دون إعلان «دولة الخلافة» الأعتى والأقسى في فنون القتل والتدمير.
جورج سمعان
صحيفة الحياة اللندنية