في العراق، ظهر مجدداً تهديد مؤسس التيار الصدري رجل الدين الشيعي المتشدد مقتدى الصدر، الأمر الذي يشكل تحديات خطيرة لرئيس الوزراء حيدرالعبادي وخططه لإصلاح الحكومة. فجهود العبادي لمحاربة الفساد واستبدال الوزراء غير الأكفاء بتكنوقراط واجهت مقاومة منذ عدة أشهر من قبل ممثلي المصالح الراسخة للأطراف المختلفة، الطائفية منها والعرقية، التي ترغب في الحفاظ على نفوذها وامتيازاتها. أما الصدر الذي أظهر نفسه في البداية كحليف للعبادي، فيدفع الآن باتجاه تغييرات أكثر تطرفاً في الحكومة ويهدد بالتخلص منها تماماً.
وقد تكون الأسابيع القليلة المقبلة حاسمة. فإذا أصرّ الصدر على مواصلة طموحاته للسيطرة على الساحة السياسية العراقية، فقد تكون هناك عواقب وخيمة. وسيؤدي فشل انتفاضة محتملة يقوم بها الصدر إلى إراقة دماء أعداد كبيرة بين أتباعه والقوات الحكومية، أما إذا نجحت مثل هذه الانتفاضة، فستتسبب في انهيار كامل للعملية السياسية الجارية في العراق.
وتعكس مواقف الصدر الانقسامات في صفوف شيعة العراق والتي بدأت تظهر الآن، حيث يدور الصراع أساساً حول التكاليف النسبية والمكاسب المرتبطة بالتعديل الوزاري الوشيك الذي سيقوم به العبادي. ويواجه هذا الأخير الآن مقاومة من الجهات الفاعلة السياسية المألوفة التي تستفيد من الحفاظ على الوضع الراهن، إلى جانب وضع الصدر الأقل قابلية للتنبؤ والأكثر تطرفاً.
وتصاعدت الضغوط ضدّ الإصلاحات التي اقترحها العبادي بسرعة منذ شباط/فبراير. ففي 5 شباط/فبراير، قرّر آية الله علي السيستاني تعليق الخطبة السياسية يوم الجمعة، وهو الذي كان قد خوّل العبادي الصيف الماضي إجراء إصلاحات قوية. وتشير هذه الخطوة إلى انسحابه الجزئي من المشهد السياسي وتركه فراغاً هرع الصدر لسدّه. وفي أقل من أسبوع، تحرّك الصدر واستبدل دعمه للعبادي بمهلة تنذر بالسوء، فمنح العبادي 45 يوماً لتنفيذ إصلاحاته بتوجيه من الصدر، وإلا سيسعى هذا الأخير إلى إيجاد بديل له.
ومنذ ذلك الحين شرع الصدر بتعبئة حركته، وقاد مظاهرة ضخمة في بغداد يوم الجمعة 26 شباط/فبراير، ألقى خلالها خطاباً صارخاً أمام الآلاف من أتباعه، مردداً ما يطرحه عادة كقوة ممثلة في الحكومة يقوم بانتقادها من الداخل. وكشف خطابه عن رغبته في الاستفادة من الموجة الحالية من الإحباط العام بسبب الوضع غير المستقر في العراق، وذلك باتهام الطبقة السياسية برمتها بالفساد. وشمل هذا الاتهام المساعدين الذين أصبحوا نواب ووزراء بفضل حركته.
وطلب الصدر من أتباعه القيام بمظاهرة أخرى يوم الجمعة التالي، وناشد المتظاهرون بأن يكونوا أكثر قرباً من حدود المنطقة الخضراء، حيث مقر الحكومة ومعظم السفارات الأجنبية. وادعى أنّ الاحتجاج سيكون سلمياً بالكامل، ولكنّ التهديد كان قائماً، حيث سيقتحم أنصار التيار الصدري المنطقة الخضراء إذا فشل العبادي في تحقيق نتائج مرضية للصدر قبل انتهاء مهلة الـ 45 يوماً.
وإذا لم ينفذ العبادي هذه الالتزامات، تقتضي خطة الصدر إقالة الحكومة الحالية واستبدالها بالتكنوقراط الذين يتمّ اختيارهم من قبل لجنة من مساعديه الخاصين والمنتخبين من خلال التصويت في البرلمان. ومع ذلك، قال الصدر إنّ الشعب سيتعامل مع البرلمانيين الذين لا يصوتوا لصالح الخطة، بتحويله البرلمان إلى أداة لإضفاء الشرعية على هذه الحكومة الجديدة.
ثمة مؤشر آخر على أنّ الصدر يحاول مرة أخرى إظهار نفسه كزعيم على المستوى الوطني، ألا وهو الثناء كلامياً على مظالم العرب السنة في خلال خطابه في 26 شباط/فبراير. وقد استخدم الصدر هذا التكتيك للمرة الأولى في عام 2012، عندما كان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي يتصدى محاولة للإطاحة به من قبل السنة والأكراد والأحزاب العلمانية. وحيث شعر الصدر بضعف المالكي انضمّ الى المعارضة على أمل أن يقدم نفسه إلى أهل السنة والأكراد كشريك بديل من قبل الشيعة.
وتدرك الأحزاب الشيعية الرئيسية الأخرى وآخرين نوايا الصدر؛ ومن بينهم منافسي العبادي في “حزب الدعوة” و”المجلس الأعلى الإسلامي” (“المجلس الأعلى”). وهؤلاء لا يريدون تسليم مناصب قوية لـ “تكنوقراط مستقلين” يرشحهم الصدر. ويصرّ “المجلس الأعلى الإسلامي العراقي”، و”حزب الدعوة”، وممثلو الأكراد على أنّ تعديل تركيبة الحكومة يجب أن يحافظ على التوازن الأساسي في النظام، وإلا سيتعيّن على العبادي ترك منصبه أيضاً ويتم تشكيل حكومة جديدة من البداية. كما تحاول بعض الشخصيات الشيعية، من بينها المالكي ووزير النقل باقر جبر الزبيدي، بناء جسور جديدة مع صانعي السياسة في الولايات المتحدة لتظهر أسمائهم كبديل معقول للعبادي. ولكنّ الفارق بين الصدر ومنافسيه هو أنهم جهات فاعلة ضمن المؤسسة وليسوا مهتمين بإبطال النظام القائم.
ولم يتضح حتى الآن ما إذا كانت إيران قد ورّطت نفسها مباشرة في هذا الصراع بين العبادي والصدر. ومن غير المرجح أن تكون طهران راضية عن حكومة يهيمن عليها الصدر، نظراً لتاريخ الصراع على السلطة بين الصدر ووكلاء مقرّبين منها – “عصائب أهل الحق” و”فيلق بدر” – وازدراء الصدر لتسلط ايران بصورة عامة. وكانت إيران قد تدخلت لصالح المالكي بعد انتخابات عام 2010 وأثناء التحركات السياسية لاستبداله عام 2012 وضده في وقت لاحق بعد انتخابات عام 2014. وفي هذه المرة، إذا وضعت إيران ثقلها بصورة أو بأخرى، إما لصالح العبادي أو مرشح من “المجلس الأعلى” أو “حزب الدعوة”، فمن الممكن جداً أن تقضي على التهديد الصدري. إلّا أنّ الآثار المترتبة على التدخل الإيراني بالنسبة للعبادي هي مسألة أخرى.
فالعبادي عالق بين رغبة الصدر في جعله دمية، وبين القوى الشيعية الأخرى التي تسعى إلى الحفاظ على الوضع الراهن. ولكنّ العبادي لم يستسلم، بل قاوم ضغط رجل الدين في خطاب ألقاه في 9 آذار/مارس، وانتقد فيه ديماغوغية الصدر. وأكد العبادي أيضاً على أنّ الإصلاح يجب أن يأتي من خلال العمل معاً، وليس كفرض لأمر واقع، مشدداً على عزمه تنفيذ إصلاحات مجلس الوزراء قريباً وفقاً للدستور.
بيد أنّ قدرة العبادي على تنفيذ هذه الإصلاحات بنجاح هي مسألة أخرى. فإذا تمت عرقلة خطة العبادي للتعديل الوزاري أو يفشل إقرارها في البرلمان، لخاطر بمواجهة مفتوحة مع الصدر. وفي أكثر السيناريوهات تطرفاً، قد يسبب ذلك قيام الآلاف من أتباع الصدر باقتحام المنطقة الخضراء، ولكنّ بأي حال من الأحوال، سيؤدي ذلك إلى فقدان المصداقية والزيادة الإجمالية في الغضب الشعبي. وبدلاً من ذلك، فإن مضي العبادي قدماً بإصلاحاته وتغييراته الوزارية، إذا بقي الحال كما هو، سيتطلب منه استرضاء “المجلس الأعلى” و”حزب الدعوة”، وفي الوقت نفسه منع الصدر من التسلل إلى العملية وادعائه بأنه لعب دوراً مضخماً في بغداد.
وسيكون الطريق نحو المستقبل مضطرب وغير متوقع. وهذا الوضع الخطير يسلط الضوء على هشاشة العلاقات البينية بين الأحزاب الشيعية ودور رجال الدين الكبار في النجف الذي يشجّع على الاستقرار. وسيكون من الأفضل الآن التسريع بالإصلاح و/أو إقناع السيستاني بالانخراط مجدداً في الخطاب السياسي بدل الانتظار لرؤية ما إذا كان الصدر جدياً بالفعل حول فرض آرائه بالقوة. ولن تكون هذه هي المرة الأولى التي يجرّ فيها الصدر أتباعه والبلاد إلى مواجهة غير حكيمة.
عمر النداوي
معهد واشنطن