ليس بالمقاربة الأمنية وحدها يُستأصَل الإرهاب

ليس بالمقاربة الأمنية وحدها يُستأصَل الإرهاب

ليس بالمقاربة الأمنية وحدها يُستأصَل الإرهاب
رغم الاستنفار الأمني الذي تعيشه بلجيكا، منذ تفجيرات ١٣ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في باريس، التي تبين أن مرتكبيها أتوا من أراضيها، ورغم تحذيرات الرئيس بوتين للبلجيكيين من عمليات إرهابية وشيكة في عاصمتهم، تمكن الإرهاب «الداعشي» من تسديد ضربته البربرية التي أتت نسخة طبق الأصل عن «غزوته» الباريسية: تفجيرات منسقة في أماكن عامة ذات رمزية خاصة، وبالطريقة الوحشية نفسها، والتوقيع نفسه.
ربما أسهم توقيف مهندس تفجيرات باريس صلاح عبدالسلام في صدور الأوامر بتنفيذ العمليتين الإرهابيتين في بروكسل، أو ربما أن الأمر محض مصادفة. في الحالتين تلقت فرنسا وبلجيكا صفعة قوية بعد إعلانات النصر الصادرة عنهما لدى إلقاء القبض على عبد السلام. لقد برهن «داعش» أنه يملك خزاناً بشرياً انتحارياً جاهزاً للتحرك، بل إن وثائق سرية نشرتها شبكة «سكاي نيوز» البريطانية كشفت عن وجود «لواء انتحاريين» في أوروبا يضم ١٢٣ عضواً داعشيا مدرباً وجاهزاً لشن هجمات في أوروبا. هذه الأخيرة أضحت في حرب مفتوحة، كما قال، وكرر فرانسوا هولاند، مع الإرهاب «الداعشي» الذي بات يتفوق بأشواط بعيدة على تنظيم القاعدة الذي خرج من أحشائه قبل أن يتمرد عليه.
عاصمة أوروبا وحلف الأطلسي هي المستهدفة بأمنها ورمزيتها واقتصادها، فالاقتصاديون يحسبون أن كل تفجير إرهابي يكلف ما بين 0.1 و0.3 في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي. استهدفها «داعش» لمعاقبتها على تعاونها مع فرنسا، ومن خلالها وجه رسالة إلى أوروبا من خلال ضرب عاصمتها.
لقد أضحت بروكسل قاعدة خلفية للإرهاب الجهادي، كما كانت عليه لندن في أواخر القرن المنصرم. لم تعد «لندنستان» ما كانت عليه في تسعينات القرن الماضي، حيث كان يحتشد الإسلاميون الجزائريون، فالشبكات المغاربية باتت، منذ عام ٢٠٠٠ تقريباً، تفضل «بروكسلستان» حيث نمت وترعرعت جماعات صغيرة لم تعرها السلطات البلجيكية اهتماماً، أو تعتبرها تهديداً. لكن بعد تفجيرات شارلي-ايبدو، في باريس في بداية العام الماضي، أخذت فرنسا تمارس ضغوطاً على جارتها التي تحركت لملاحقة «الجهاديين» على أراضيها. وإذا كان من المنطقي الافتراض، بعدما حصل في بروكسل، أنها قد تنجح، بمساعدة الفرنسيين وغيرهم، في تفكيك الشبكات الإرهابية، فمن الأرجح أن «بروكسلستان» جديدة سوف تنشأ في مكان آخر في أوروبا، يرجحه المحللون في جنوبي إيطاليا التي أضحت نقطة عبور للمهاجرين الآتين من ليبيا حيث يزدهر تنظيم «داعش».
منذ عقد ونصف تقريباً تواجه أوروبا الإرهاب من دون نجاح يذكر، رغم تفكيك الكثير من خلاياه، وإحباط العديد من العمليات قبل تنفيذها. ومنذ تفجيرات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ جرب الأوروبيون المقاربات الأمنية والاستخباراتية من دون أن ينجحوا في استئصال الإرهاب من جذوره. فالحقيقة، كما يشرح البروفيسور توماس رونار الخبير في قضايا الإرهاب لدى معهد ايغمونت التابع لوزارة الخارجية البلجيكية، أنه من المستحيل وضع شرطي في كل زاوية وطريق ومراقبة المشبوهين اناء الليل وأطراف النهار، أو وضع أجهزة على كل مداخل محطات وأنفاق القطارات والنقل العام، وغيره. وعمل أجهزة الاستخبارات ومكافحة الإرهاب صعب ودقيق، إذ عليها إيجاد التوازن الدقيق ما بين المراقبة وتجميع المعلومات من جهة، وتوقيف وتفكيك الشبكة الإرهابية من الجهة المقابلة. فالتدخل المبكر يحرمها من المعلومات الضرورية لتفكيك الشبكة وإدانة الأشخاص الذين تضطر لإطلاق سراحهم في غياب الأدلة، ما يجعلهم خطراً على المجتمع. والتدخل المتأخر يأتي بعد التفجيرات، كما حدث في بروكسل، فيغدو النجاح الوحيد الممكن في الكشف عن هوية المرتكبين وملاحقة المتواطئين معهم. إنها أحجية أجهزة الاستخبارات، كما يقول رونار.
وهكذا فإن الوسائل الأمنية والعسكرية، على أهميتها، لا تكفي لمكافحة الإرهاب. حي مولنبيك في بروكسل يشبه أحياء كثيرة في ضواحي المدن الأوروبية الأخرى. إنه أشبه ب«غيتو» تزدحم فيه المشكلات المرتبطة بأوضاع اجتماعية – اقتصادية سيئة، وبحرمان يعانيه سكانه المنتمون إلى جاليات عربية وإسلامية نمت فيها جماعات راديكالية ليست كلها إرهابية بالضرورة، ولكن وجد فيها التطرف تربة خصبة فراح ينمو ويترعرع على خلفية ما يجري في الشرق الأوسط.
رئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشال، ينكر الصلة ما بين الأوضاع الاجتماعية – الاقتصادية والإرهاب، ففي رأيه يقبع السبب في «ايديولوجيا التعصب التي تريد فرض رؤيتها الظلامية بالعنف المفرط، وينبغي محاربتها من دون التخلي عن قيمنا الأساسية ». وهذا الرأي يشاركه فيه كثيرون تزداد أعدادهم مع تزايد العمليات الإرهابية.
لكن رأياً آخر يسود في أوساط مثقفين، مثل فرانسوا بورغا، المختص بالحركات الإسلامية، الذي يتساءل ما إذا كانت «الضواحي عنيفة أو مُعنَّفة؟»، أي أنها تخضع لعنف وتهميش وإهمال وفقر فتضحي «ماكينات تفبرك زارعي القنابل» من الإرهابيين. وزارعو القنابل الأصليون، في رأيه، هم السياسيون الغربيون الذين تسببوا بقراراتهم الداخلية والخارجية، الانتخابوية والشعبوية، بقتل مليون إنسان في العالم في العقدين الماضيين. أما فرانسوا هايزبورغ فيعتبر بأن الكلام عن جيش وحرب في ما يتعلق ب«داعش» هو تصويب على أهداف خاطئة. «داعش» لا يحتاج لجيش ليزرع الرعب في كل مكان، ولا شيء يخدمه مثل التعامل معه كدولة تمتلك جيشاً، ومع المواطنين الأوروبيين كفئتين واحدة أصلية لا شك فيها، والأخرى من أصول عربية وإسلامية مشكوك بولائها وانتمائها. هذا الانزلاق إلى حرب أهلية مضمرة هو ما يتمناه «داعش».
من زاوية التحليل النفسي، يعتقد محللون أن الردكلة مرتبطة بهوية هؤلاء الأفراد وإدراكهم أن لا مكان لهم في المجتمع. والانتقال إلى الإرهاب هو طريقة لإعطاء معنى لوجودهم الذي بات من دون معنى. ومكافحة الراديكالية تعني أيضاً مكافحة الشعور بالتهميش وضياع الهوية وأزمة الانتماء لدى عدد كبير من هؤلاء.

د.غسان عزي
صحيفة الخليج