في الثامن من أبريل /نيسان، عام 2003، جرى احتلال عاصمة العباسيين. وكان ذلك إيذاناً باحتلال العراق، من زاخو شمالاً إلى صفوان جنوبا. ومنذ ذلك التاريخ، والبلاد لا تزال غارقة في جحيم الفوضى وانعدام الأمن والغذاء، ومتطلبات العيش الكريم.
إثر الاحتلال، بدأت مقاومة العراقيين، للاحتلال. ولم يكن ذلك غريباً، على شعب وقف ضد الغزاة، طوال تاريخه الطويل، وكانت له ملاحم فذة في مواجهة المغول والعثمانيين والصفويين، وفي مواجهة الاحتلال البريطاني، في ثورة العشرين، وفي ثورات أخرى، صنعت تاريخ العراق الحديث.
أكد العراقيون بمقاومتهم للمحتل، قدرتهم على استنهاض موروثهم التاريخي، والزج به في معركة التحرير. ولم يكن ذلك سوى تماه مع نواميس الكون. فالأمم حين تتعرض للنكسات والنكبات، تستحضر إرثها ومخزونها، كعنصر إيجابي، ضمن قانون الفعل والاستجابة.
ولم يكن لأي شعب آخر، أن يمتلك ما امتلكه العراقيون، من إرث مجيد، فقد كانت بلاد السواد، منطلق الأبجدية واللغة الفصحى، وقوانين حمورابي، ومنارة النهضة، وفي عاصمته جرت ترجمة علوم الأولين، كما جرى تدوين الفقه وتاريخ هذه الأمة، ومنه انبثقت العلوم والمعارف، وقصائد العشاق، وفي عهده الذهبي، وُجدت إمبراطورية عربية شامخة، لا تغيب عنها الشمس.
احتل العراق، خارج إطار الشرعية الدولية، تحت فرية امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وإقامة علاقة مع تنظيم القاعدة. وأبان الأمريكيون، أن حربهم على العراق، هي جزء من الحرب العالمية على الإرهاب. وثبت للقاصي والداني، زيف تلك الذرائع. وعجز المحتل، عن تقديم أي دليل يثبت فريته.
لم يكن للإرهاب في العراق، في ظل دولته الوطنية، موطئ قدم. وقد أكدت الحوادث اللاحقة، أن قدوم تنظيم القاعدة وإخوانه، إلى العراق، هو أحد إفرازات احتلاله وليس قبل ذلك. ومنذ ذلك التاريخ، أضحى العراق، مركز تصدير الإرهاب في المنطقة بأسرها.
تغول الإرهاب في عموم أرض العراق، وبلغ بها الأمر، حد احتلال، «داعش»، التنظيم السليل للقاعدة، قبل أكثر من عام أربع محافظات عراقية: الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، في المنطقة التي عرفها المحتل، بالمثلث السني. وقد جرى ذلك، والعراق لم يزل، في عهدة القوات الأمريكية، حيث يحتفظ حتى هذا التاريخ، باتفاقيات أمنية كبيرة، تقيد حريته واستقلاله.
وتكشف السبب الحقيقي للاحتلال الأمريكي. فقد أريد لاحتلال العراق، أن يكون المدماك الأول، لمشروع التفتيت، وأن الفوضى التي أعقبته، من نهب لآثاره، وتدمير للجامعات، وحرق للمكتبات والمؤسسات، وتفكيك لهياكل الدولة، وقتل على الهوية، هي جميعها، بحسب وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد ممارسة للحرية، وتمرين على الديمقراطية، لشعب لم يتذوق ممارستها في تاريخه، وأنها والحال هذه فوضى خلاقة، سينبثق من رحمها العراق الجديد، المتماهي مع مشروع الشرق الأوسط، الجديد، الذي بشرت به إدارة المحافظين الجدد، غداة وصول جورج بوش للبيت الأبيض.
دشنت عملية سياسية، على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات القومية، لضمان بقاء العراق، ضعيفاً إلى ما لانهاية. ولم يكن بالمقدور توفير أدوات من داخل العراق لتحقيق هذا الهدف، إلا من خلال قوى رديفة للمحتل، قوى من خارج الانتماء للوطن، والإيمان بمستقبله، وحقه في النماء والحرية، وتقرير المصير. قوى لا تؤمن بانتماء العراق العربي، ولا بحقه في التكامل مع أشقائه العرب، للدفاع عن القضايا المصيرية للأمة.
وهكذا تم اختيار عناصر وأحزاب وميليشيات، على مقاس العملية السياسية، التي تجعل من العراق، كياناً باهتاً وفاشلاً. وكانت المواصفات المطلوبة جاهزة: قطّاع طرق، وعملاء مزدوجون، وطائفيون، وانعزاليون، ولصوص.
لقد وجد الأمريكيون ضالتهم، في الغوغاء، التي قامت بسرقة الآثار، وحرق المقار الحكومية، ومصادرة العراق كياناً وهوية، والتي مارست القتل على الهوية، والتهجير القسري للعراقيين، كوسيلة للتطهير الطائفي، فسلمتهم مقادير البلاد. وبقوا يتربعون على سدة الحكم، يبيعون ويشترون فيه، وينهبون ثرواته.
لم يجد الإرهاب، أرضا خصبة، لممارسة نشاطه، كما وجد في الظروف التي صنعها المحتل، غداة سطوه على أرض الرافدين. وفي أجواء قاتمة ومكلومة كهذه، لا يتوقع أن يدافع الجيش العراقي، «جيش العراق الجديد»، المكون من بقايا ميليشيات النهب والتخريب، عن أرض الوطن.
إفرازات الاحتلال كانت سرقة أوطان وهتك أعراض، واضطرار مئات الألوف من العراقيين، للهروب من ديارهم، ليضافوا إلى قائمة تعدى أفرادها خمسة ملايين من البشر، يقيمون خارج العراق، ويحلمون بالعودة إلى ديارهم، في ظل سلطة لا يكون فيها الحكم للأقليات العرقية ولا للطوائف.
حال العراق اليوم، حال مأساوي وكئيب، والتوصيف رغم قتامته، بات موضع إجماع كل العراقيين، حتى أولئك الذين ركبوا موجة العملية السياسية واستفادوا منها. وهل من دليل على ذلك، أكبر من اعتصام الصدريين هذه الأيام، بالمنطقة الخضراء، مطالبين بالقضاء على الفساد، وبتشكيل حكومة عراقية تكنوقراط، قادرة على تلبية المطالب المعيشية لغالبية العراقيين.
سوف يستمر الوضع الكارثي، بأرض السواء، ولن ينبلج صباحه، إلا بإلغاء العملية السياسية، التي هندس لها المحتل، ووقف التدخلات الإقليمية، في شؤونه، وعودته إلى محيطه العربي كما كان دائماً عبر تاريخه التليد، وبتحقيق مصالحة وطنية، لا تستثني فريقاً من العراقيين، مصالحة تعتمد مفهوم المواطنة، القائم على الندية والتكافؤ والمساواة، ورفض الاجتثاث والإقصاء.
ثلاثة عشر عاما، من السنين العجاف، آن لها أن تنتهي، وآن للبسمة أن ترتسم مجدداً على الشفاه… آن لطائر الفينيق أن يحلق مجدداً، كما هو ديدنه دائماً، فوق سماء العراق.
إثر الاحتلال، بدأت مقاومة العراقيين، للاحتلال. ولم يكن ذلك غريباً، على شعب وقف ضد الغزاة، طوال تاريخه الطويل، وكانت له ملاحم فذة في مواجهة المغول والعثمانيين والصفويين، وفي مواجهة الاحتلال البريطاني، في ثورة العشرين، وفي ثورات أخرى، صنعت تاريخ العراق الحديث.
أكد العراقيون بمقاومتهم للمحتل، قدرتهم على استنهاض موروثهم التاريخي، والزج به في معركة التحرير. ولم يكن ذلك سوى تماه مع نواميس الكون. فالأمم حين تتعرض للنكسات والنكبات، تستحضر إرثها ومخزونها، كعنصر إيجابي، ضمن قانون الفعل والاستجابة.
ولم يكن لأي شعب آخر، أن يمتلك ما امتلكه العراقيون، من إرث مجيد، فقد كانت بلاد السواد، منطلق الأبجدية واللغة الفصحى، وقوانين حمورابي، ومنارة النهضة، وفي عاصمته جرت ترجمة علوم الأولين، كما جرى تدوين الفقه وتاريخ هذه الأمة، ومنه انبثقت العلوم والمعارف، وقصائد العشاق، وفي عهده الذهبي، وُجدت إمبراطورية عربية شامخة، لا تغيب عنها الشمس.
احتل العراق، خارج إطار الشرعية الدولية، تحت فرية امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وإقامة علاقة مع تنظيم القاعدة. وأبان الأمريكيون، أن حربهم على العراق، هي جزء من الحرب العالمية على الإرهاب. وثبت للقاصي والداني، زيف تلك الذرائع. وعجز المحتل، عن تقديم أي دليل يثبت فريته.
لم يكن للإرهاب في العراق، في ظل دولته الوطنية، موطئ قدم. وقد أكدت الحوادث اللاحقة، أن قدوم تنظيم القاعدة وإخوانه، إلى العراق، هو أحد إفرازات احتلاله وليس قبل ذلك. ومنذ ذلك التاريخ، أضحى العراق، مركز تصدير الإرهاب في المنطقة بأسرها.
تغول الإرهاب في عموم أرض العراق، وبلغ بها الأمر، حد احتلال، «داعش»، التنظيم السليل للقاعدة، قبل أكثر من عام أربع محافظات عراقية: الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، في المنطقة التي عرفها المحتل، بالمثلث السني. وقد جرى ذلك، والعراق لم يزل، في عهدة القوات الأمريكية، حيث يحتفظ حتى هذا التاريخ، باتفاقيات أمنية كبيرة، تقيد حريته واستقلاله.
وتكشف السبب الحقيقي للاحتلال الأمريكي. فقد أريد لاحتلال العراق، أن يكون المدماك الأول، لمشروع التفتيت، وأن الفوضى التي أعقبته، من نهب لآثاره، وتدمير للجامعات، وحرق للمكتبات والمؤسسات، وتفكيك لهياكل الدولة، وقتل على الهوية، هي جميعها، بحسب وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد ممارسة للحرية، وتمرين على الديمقراطية، لشعب لم يتذوق ممارستها في تاريخه، وأنها والحال هذه فوضى خلاقة، سينبثق من رحمها العراق الجديد، المتماهي مع مشروع الشرق الأوسط، الجديد، الذي بشرت به إدارة المحافظين الجدد، غداة وصول جورج بوش للبيت الأبيض.
دشنت عملية سياسية، على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات القومية، لضمان بقاء العراق، ضعيفاً إلى ما لانهاية. ولم يكن بالمقدور توفير أدوات من داخل العراق لتحقيق هذا الهدف، إلا من خلال قوى رديفة للمحتل، قوى من خارج الانتماء للوطن، والإيمان بمستقبله، وحقه في النماء والحرية، وتقرير المصير. قوى لا تؤمن بانتماء العراق العربي، ولا بحقه في التكامل مع أشقائه العرب، للدفاع عن القضايا المصيرية للأمة.
وهكذا تم اختيار عناصر وأحزاب وميليشيات، على مقاس العملية السياسية، التي تجعل من العراق، كياناً باهتاً وفاشلاً. وكانت المواصفات المطلوبة جاهزة: قطّاع طرق، وعملاء مزدوجون، وطائفيون، وانعزاليون، ولصوص.
لقد وجد الأمريكيون ضالتهم، في الغوغاء، التي قامت بسرقة الآثار، وحرق المقار الحكومية، ومصادرة العراق كياناً وهوية، والتي مارست القتل على الهوية، والتهجير القسري للعراقيين، كوسيلة للتطهير الطائفي، فسلمتهم مقادير البلاد. وبقوا يتربعون على سدة الحكم، يبيعون ويشترون فيه، وينهبون ثرواته.
لم يجد الإرهاب، أرضا خصبة، لممارسة نشاطه، كما وجد في الظروف التي صنعها المحتل، غداة سطوه على أرض الرافدين. وفي أجواء قاتمة ومكلومة كهذه، لا يتوقع أن يدافع الجيش العراقي، «جيش العراق الجديد»، المكون من بقايا ميليشيات النهب والتخريب، عن أرض الوطن.
إفرازات الاحتلال كانت سرقة أوطان وهتك أعراض، واضطرار مئات الألوف من العراقيين، للهروب من ديارهم، ليضافوا إلى قائمة تعدى أفرادها خمسة ملايين من البشر، يقيمون خارج العراق، ويحلمون بالعودة إلى ديارهم، في ظل سلطة لا يكون فيها الحكم للأقليات العرقية ولا للطوائف.
حال العراق اليوم، حال مأساوي وكئيب، والتوصيف رغم قتامته، بات موضع إجماع كل العراقيين، حتى أولئك الذين ركبوا موجة العملية السياسية واستفادوا منها. وهل من دليل على ذلك، أكبر من اعتصام الصدريين هذه الأيام، بالمنطقة الخضراء، مطالبين بالقضاء على الفساد، وبتشكيل حكومة عراقية تكنوقراط، قادرة على تلبية المطالب المعيشية لغالبية العراقيين.
سوف يستمر الوضع الكارثي، بأرض السواء، ولن ينبلج صباحه، إلا بإلغاء العملية السياسية، التي هندس لها المحتل، ووقف التدخلات الإقليمية، في شؤونه، وعودته إلى محيطه العربي كما كان دائماً عبر تاريخه التليد، وبتحقيق مصالحة وطنية، لا تستثني فريقاً من العراقيين، مصالحة تعتمد مفهوم المواطنة، القائم على الندية والتكافؤ والمساواة، ورفض الاجتثاث والإقصاء.
ثلاثة عشر عاما، من السنين العجاف، آن لها أن تنتهي، وآن للبسمة أن ترتسم مجدداً على الشفاه… آن لطائر الفينيق أن يحلق مجدداً، كما هو ديدنه دائماً، فوق سماء العراق.
د.يوسف مكي
صحيفة الخليج