منذ نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن المنصرم، يشهد النظام الدولي تطورا ملحوظا لنشاط الفاعلين من غير الدول. ومن هؤلاء الفاعلين الذي أضحي لهم دور مؤثر علي الساحة الدولية أخيرا الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي كان لظهورها انعكاس علي الاستقرار الدولي، وحالة السلم والأمن الدوليين، حيث بدت في البداية كفاعل دولي مؤثر ومحفز علي الصراعات التي تدور في مناطق شتي من العالم.
ومع انتهاء الحرب الباردة، أضحت هذه الشركات أكثر تنظيما مع استخدامها في إدارة الصراعات لتحقيق مصالح معينة في المناطق التي تغيب عنها سلطة الدولة، فضلا عن إمكانية استخدامها من قبل الحكومات ضد أطراف معارضة لها. وتعد قارة إفريقيا وما شهدته وتشهده من صراعات المثال الأبرز لذلك.
وفي هذا السياق، تتمحور تلك الأطروحة حول تطور دور الفاعلين من غير الدول في النظام الدولي، حيث تركز بشكل أساسي علي دور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في عمليات حفظ السلام حول العالم. وجاء التساؤل الرئيسي للأطروحة بشأن ماهية دور هذه الشركات كأحد الفاعلين من غير الدول في عمليات السلام المختلفة، وما إذا كان مهددا للأمن الدولي أم مساهما في الحفاظ عليه.
تنامي دور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة:
مع تقاعس عدد كبير من حكومات الدول الغربية، وعلي رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، عن المشاركة في بعثات حفظ السلام المتعددة، أدي ذلك إلي خلق فراغ أمني علي المستوي الدولي، وهو ما ظهر جليا في الصومال عام 1993، الأمر الذي أعطي أطرافا أخري الفرصة، وتحديدا الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، لتمثل نموذجا أمنيا جديدا، يعمل إلي جانب الدولة في هذا المجال، وتبدي استعدادا للتدخل في العديد من المناطق التي شهدت عزوفا من قبل القوي الدولية عن المشاركة فيها، مما أعطي للفاعلين من غير الدول وزنا في المشهد الدولي، خاصة في ظل إسهامهم بدور ملحوظ في عمليات حفظ السلام.
تشير الباحثة إلي أنه علي الرغم من الصعوبة في تحديد بداية ظهور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، ككيانات تتمتع بالوضع القانوني، فإن هناك من يرجع نشأتها إلي عام 1946، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد تأسيس شركة DynCorp علي يد عدد من المحاربين القدامي، بينما يرجع آخرون نشأتها إلي ستينيات القرن الماضي علي يد الكولونيل ديفيد ستيرلينج بعد تأسيسه شركة watch guard international في عام .1967 وإضافة إلي ذلك، فقد شهد عقد التسعينيات زخما كبيرا فيما يتعلق بوجود تلك الشركات، حيث شهد الموقف الدولي منها تطورا ملحوظا، حيث سعي إلي تحويلها لكيانات قانونية، وتطوير إطار قانوني ينظم عملها، علاوة علي قبول مشاركتها في مرحلة لاحقة في عمليات السلام.
وتنحصر الاستعانة بهذه الشركات في أربع حالات، تتمثل في المناطق التي تشهد نزاعا مسلحا منخفض الشدة، ولا تنتشر فيها الجيوش انتشارا تاما، والمناطق التي يزيد فيها مستوي غياب الأمن بعد انتهاء النزاع، والمناطق التي تشهد صراعات مسلحة ولا تتدخل فيها المنظمات الدولية، والمناطق المضطربة بالدول النامية التي يغيب عنها وجود الدولة.
وتشير الباحثة إلي أن عجز الأمم المتحدة عن توفير الحماية اللازمة لأفراد وأصول بعثاتها في عمليات السلام، علاوة علي غياب المساندة والدعم من الحكومات المضيفة لهذه البعثات، كان دافعا للاستعانة بالشركات العسكرية والأمنية الخاصة من أجل تقديم الدعم اللازم لإنجاح بعثات عمليات السلام. وتشير التقديرات إلي استخدام الأمم المتحدة بوجه عام شركات أمنية خاصة مسلحة في ثلاث دول، وشركات أمنية خاصة غير مسلحة في 12 دولة توجد بها بعثات لحفظ السلام، إلي جانب 11 دولة توجد فيها بعثات سياسية خاصة. وتتمثل أبرز أدوار وأنشطة تلك الشركات التي استعانت بها الأمم المتحدة في عمليات السلام في عملية تقييم المخاطر، وتحليل التهديدات، والتخلص من الألغام والذخائر، وإصلاح القطاع الأمني، والدعم الميداني، والمساعدة الانتخابية.
الإطار القانوني للشركات العسكرية والأمنية الخاصة:
تري الباحثة أن تلك الشركات الخاصة قد تمكنت -من خلال الدور الذي لعبته جماعات الضغط التي تمثل مصالحها- من التأثير في صانع القرار في صياغة النظم القانونية التي تمس عملها، فضلا عن حرص المجتمع الدولي علي التواصل مع هذه الشركات، ومناقشة قضاياها، وتأثيراتها في حفظ السلم والأمن الدوليين.
وفيما يخص الإطار القانوني لتلك الشركات، يمكن القول إنه لا يوجد إطار قانوني مخصص لتنظيم أوضاع الشركات الأمنية الخاصة خلال عمليات السلام، فهي تعد أحد كيانات القطاع الخاص التي يتم التعاقد معها وفق معايير محددة مقابل الخدمات التي ينص عليها العقد المبرم. أما بالنسبة لأفراد تلك الشركات، فيتولي الأمين العام للأمم المتحدة تحديد المركز القانوني لهم، سواء بعدّهم جزءا من موظفي المنظمة، أو أفرادا مرتبطين بها، مما يعني أن المسألة تقديرية في يد الأمين العام. ومن ثم، فهناك توافق دولي عام حول ضرورة الوصول إلي اتفاقية دولية تنظم عمل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة.
ومع تطور الشخصية القانونية الدولية للفاعلين في القانون الدولي، وتباين الالتزامات الدولية تبعا لما إذا كان معترفا لجهة فاعلة ما بوصفها فاعلا رئيسيا وشخصا من أشخاص القانون الدولي، ويقصد بها الدول والمنظمات الدولية، أو شخصا ثانويا، كالفاعلين من غير الدول، ولما كانت الدولة تمثل الفاعل الدولي الرئيسي في النظام الدولي، فيتضح أنها تتحمل بموجب قواعد القانون الدولي المسئولية الرئيسية عن أفعال تلك الشركات. كما أن المنظمات الدولية يقع علي عاتقها مسئولية أيضا عن انتهاكات تلك الشركات المتعاقدة معها، بالرغم من وجود بعض الحالات التي يتم فيها مساءلة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة. وفي السياق نفسه، يتحمل أفراد الشركات المسئولية الجنائية الفردية عن أي انتهاكات جسيمة قد يرتكبونها.
الشركات الأمنية الخاصة وحوكمة عمليات السلام:
تناولت الباحثة ثلاثة أنماط لنظم الحوكمة، هي الحوكمة عبر الحكومة، والحوكمة مع الحكومة، والحوكمة بدون الحكومة. وأشارت إلي أنها أنظمة متداخلة بطبيعتها، كما أكدت أن اقتراب الحوكمة العالمية ساعد في تفسير التحولات التي قام خلالها الفاعلون من الدول وغير الدول بخلق أنظمة تستهدف تحقيق مصلحة ما، أو مواجهة تهديد ما.
وقد خلصت إلي أن وجود تلك الشركات كجزء من حوكمة عمليات السلام يثير المزيد من الجدل حول شرعية وجودها كجزء من نظم حوكمة السلام. فارتكاب انتهاكات أو جرائم إنسانية يؤثر في مصداقية بعثات عمليات السلام، ويهدد شرعية وجودها في مناطق الصراع.
وختاما، تخلص الدراسة إلي أن الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أضحت فاعلا دوليا حاضرا بقوة في مشهد العلاقات الدولية. كما أن عمليات السلام التي أنشئت بغرض حفظ السلم والأمن الدوليين تعكس تطور هذا الدور في النظام الدولي. كما أن هناك ضرورة بشأن البحث الجاد حول تطوير المنظومة القانونية التي تخضع لها هذه الشركات وأفرادها، فضلا عن التأكد من أن الشركات لا تضم أفرادا مدنيين شاركوا في حروب سابقة، حتى يمكنهم الإسهام في بناء وترسيخ ثقافة السلام التي تزيد من أسهم نجاح عمليات السلام.
المؤلف: رضوى عمار
عرض: أحمد عسكر