تبدو ملامح تقسيم سورية واضحة في الأفق، تنفيذاً للتفاهم الروسي الأميركي حول الحل السياسي للأزمة السورية في إطار الخريطة الجديدة للمنطقة التي تم رسمها، أو التي هي في المرحلة الأخيرة من رسمها، بحيث ستكون سورية المستقبل القريب غيرها بالأمس. ومن المؤكد أن الدولتين تفاهمتا على توزيع الأدوار، أو لنقل بعبارة أشد صراحة، «تقاسم الكعكة»، بحيث تنال كل واحدة منهما الحصة المقررة لها، على أن يكون «النصيب الأكبر» لموسكو، برضا من واشنطن التي يظهر أن «حصة الأكراد» ستكون من نصيبها. ولنا أن نقيس على ذلك ما استقام لنا القياس.
منذ سنوات عدة، تم التخطيط لتقسيم دول المنطقة ومنها سورية، وعقدت القوى العظمى العزم على التدخل في المنطقة لصياغة نظام إقليمي جديد يتوافق مع السياسة التي تنهجها في التعامل مع المتغيرات التي يشهدها الإقليم، والتي ترمي من ورائها إلى تأمين مصالحها الاستراتيجية، وفي مقدمها أمن الكيان الصهيوني المحتل للأراضي الفلسطينية، وإنْ على حساب مصالح دول المنطقة الأخرى وضد إرادتها، وبالمخالفة لسيادتها الوطنية. وتبيّن اليوم، بالوضوح الكامل، أن الظروف باتت مناسبة لتحقيق تلك السياسة التي لا نجد وصفاً يليق بها من كونها السياسة الاستعمارية الجديدة، التي تطبق في العالم العربي على مراحل.
لقد أصبحت سورية قاب قوسين أو أدنى من التفتيت إلى كيانات هجينة بدعوى أن النظام الكونفدرالي هو الذي يناسب سورية، ويتلاءم مع طبيعتها السكانية، وهو إلى ذلك المخرج الوحيد من الأزمة السياسية الطاحنة التي يعاني منها الشعب السوري في الداخل والخارج. والواقع أن الدولة الاتحادية لن تكون الدولة النموذجية في هذا البلد المنكوب بالنظام الاستبدادي المفروض عليه منذ أكثر من نصف قرن. فلقد حاولت فرنسا، التي احتلت سورية تحت مسمى الانتداب في مطلع العشرينات، تقسيم هذا البلد. ولكن ما لبثت أن فشلت في خطتها، فاسترجعت سورية وحدتها، واستكملت سيادتها، إلى أن حصلت على استقلالها في منتصف الأربعينات، وإن دخلت منذ عهد الاستقلال في دوامة من الانقلابات العسكرية، انتهت باستيلاء الفريق حافظ الأسد، الذي ينتمي الى طائفة صغيرة في سورية، على الحكم في 1970، والذي جعل من سورية سجناً طائفياً حديدياً ورثه لابنه طبيب العيون بشار الأسد، الذي فقد بصيرته، وفاق أباه في التعسف والقتل والتدمير وفي تسليم البلاد إلى قادة إيران أولاً، ثم إلى روسيا، بثمن بخس، هو الاستمرار على سدة الحكم، ولو على أشلاء الشعب السوري الذي هاجر نصفه إلى خارج البلاد هائماً على وجهه في الأرض، يبحث عن الخلاص والحرية والكرامة التي افتقدها في وطنه المسلوب منه.
ويجرى تنفيذ تقسيم سورية في معزل عن مجموعة الدول التي اجتمعت في ميونيخ، وعن بيانات جنيف 1 وجنيف 2، وخارج المفاوضات التي تجرى في جنيف، أو تلك التي من المفترض أن تتم بين المعارضة ونظام بشار الأسد تحت رعاية الأمم المتحدة. وبذلك تكون الدولتان الراعيتان للحل السياسي تصنعان الحل وفق مصالحهما فقط لا بما يتفق ومصالح الشعب السوري. وفي ذلك انتهاك لميثاق الأمم المتحدة، وتكريس لمبدأ التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما يتعارض مع القانون الدولي، ويمهد لمرحلة جديدة ينفرد فيها القطبان الروسي والأميركي، بالهيمنة على السياسة الدولية، ويردّ العالم إلى عصر الاستقطاب وتوزيع مناطق النفوذ على الدولتين العظميين. وفي ذلك انتكاسة للنظام العالمي، ستكون لها مضاعفاتها الخطيرة، وآثارها السلبية على السلم والأمن الدوليين.
ومما يزيد في خطورة هذا الوضع الغامض الذي تصنعه هاتان الدولتان، أن الدول الثلاث الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، تتصرف وكأن هذه الأزمة الخطيرة والمستفحلة لا تهمها من قريب أو بعيد، وأنها لا تتحمل نصيبها من المسؤولية عنها باعتبار أنها مع الدولتين الأخريين، يمثلون القوة المفترض فيها أن تحفظ السلم والأمن في العالم، وكأن الآثار المدمرة لهذا الوضع المستجد لن تصل إليها. وهذا خطأ جسيم وخداع للنفس إن لم يكن خداعاً للعالم، وصرفاً للانتباه عن الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها نظام بشار الأسد الذي يحتمي بروسيا وبإيران وميليشياتها الطائفية.
في ظل هذا الوضع الخطير، تجد الدول العربية نفسها محصورة بين إرهاب مشبوه الهوية وتغول إيراني طائفي من جهة، وبين استعمار واضح المعالم من جهة أخرى. ولا يعلم أحد ماذا سيحدث لاحقاً للمنطقة. ولذلك فإن من الحكمة وعزم الأمور تقوية التحالف الإسلامي الذي تقوده الرياض، وأن يواجه الجميع تحديات الإرهاب والطائفية والاستعمار الجديد بأقصى حد من الحزم والعزم والحسم، حفاظاً على وحدة سورية، وحماية لحقوق شعبها، ودرءاً للخطر الداهم الذي يحيط بدول العالم العربي الإسلامي كافة، والذي بات حقيقة وليس وهماً.
عبدالعزيز التويجري
صحيفة الحياة اللندنية