بعد كل حادث تفجير في الأراضي الأوروبية، نصبح مطالبين نحن العرب بصورة خاصة والمسلمين عموما، أن ننفض عقولنا وقلوبنا من تهمة الإرهاب، وأن نسلخ حتى جلودنا لإثبات البراءة.
فرية كبرى هذه التي يدحرجها الإعلام الغربي علينا بعد كل واقعة تفجير، والغريب أن الكثير من وسائل الإعلام العربي تذهب بعيدا في غفلتها فتنغمس في وحل هذه الكذبة، بدون تمحيص وتدقيق في حقيقة الاشياء التي تدور في الذهنية الغربية من وراء ذلك، فينحرف الإعلام العربي من ناطق باسمنا إلى ضدنا، ومن شاهد نفي إلى شاهد إثبات، من خلال التحليلات السطحية القائمة على أساس أن هذه الحوادث هي بفعل الإسلام كدين، إلى درجة أن البعض يطل علينا بعد كل حادث من هذا النوع، مقترحا إلغاء نصوص قرآنية، وإعادة تفسير أحاديث نبوية، واتهامات من العيار الثقيل إلى فقهاء اجتهدوا في الدين بهدف التسهيل والتيسير في الفهم، وليس بقصد صناعة البغضاء والحقد والضغينة ضد الآخر. المسألة الكبرى التي يتغاضى البعض عن الإشارة إليها من قريب أو بعيد، ويتبعهم في هذا التجاهل الكثير منا أيضا، وهي الابتعاد عن تفسير هذه الأحداث على أنها أزمة مجتمع غربي، وليست أزمة أخلاقية في الدين الإسلامي ذاته. فلا أحد يريد أن يعترف بأن ما حصل هو قيام مواطنين بلجيكيين بقتل مواطنين بلجيكيين، وقبلها قيام مواطنين فرنسيين بقتل مواطنين فرنسيين أيضا. يتباهى الغرب بأنه مجتمعات قائمة على هوية المواطنة. إذن لماذا تُنحّى هذه الهوية جانبا بعد كل حادثة تفجير، ويضعون صوب أعين مجتمعهم وأعيننا الهوية الدينية أو العرقية للذين قاموا بالفعل الجرمي؟
المشكلة الكبرى أن الغرب لا يريد أن يعترف بأن مجتمعاته تعاني أزمات كبرى، أزمة هوية، وأزمة ضياع، وأزمة تغريب واستلاب، إضافة إلى أزمات اقتصادية خانقة. هنالك خلل كبير في الموازنة بين العوامل الروحية والمادية، وتقديس للفردية على حساب المجموع، وهذه عوامل كبرى تؤثر في تحديد بوصلة الإنسان وتركيز اتجاهاته. هم لا يريدون الإشارة إلى هذه الأمور، لانهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أكثر رُقيا من غيرهم، ويحاولون تسويق نمط حياتهم كقيم ثقافية يجب أن تعمل بها بقية الشعوب الأخرى. من المسؤول عن مواطن ولد هو وأبواه على الأراضي الأوروبية ويحملون جنسية ذلك البلد؟ أي مجتمع وأي سلطات وقيم هي التي تحدد سلوكه إن كان شيطانيا أم ملائكيا؟ وهل يعقل أن يتحمل المجتمع العربي والإسلامي انحرافاته السلوكية فقط لأنه من تلك الأصول؟
هنالك حقيقة يجب أن يعرفها الغرب ونعرفها نحن أيضا، وهي أن المسلمين في الغرب وحتى في دول آسيوية كبرى، يختلفون تماما عن العرب المسلمين ممن هم في ديار العروبة، في فهم الدين وأحكامه ولوائحه وشرائعه، لأسباب كثيرة منها عامل اللغة العربية وثقافة تلك البلدان. في بلد آسيوي يعتبر أكبر بلد مسلم، كنا نعمل في السلك الدبلوماسي، كان المسلمون فيه يبدلون دينهم كما يبدلون ثيابهم، فالمسلم الذي يقع في حب فتاة من دين آخر يصبح على دينها في اليوم التالي والعكس صحيح، وكان الكثير من رجال الدين في البلد يقرون بحقيقة أن مواطنيهم لا يعرفون من الدين حلاله وحرامه. كذلك وجدنا هذه الظاهرة منتشرة بين المسلمين في الغرب، حتى من المولودين من أصول عربية. فهل يستطيع الغرب أن يثبت لنا بأن من قاموا بالتفجيرات كان دافعهم الدين الإسلامي، وأنهم من التقاة العاكفين في المساجد؟ لا أحد يستطيع أن يقول بذلك إطلاقا، بل إن الغرب نفسه يكشف في كل مرة عن تاريخ إجرامي لهم، بعضهم من تاجر بالمخدرات، والبعض الآخر من اتهم بالسرقة والسطو المسلح، وغيرها من الجرائم الأخرى. هذه النماذج البشرية في كثير من الاحيان يكون لديهم هاجس البحث عن قضية كبرى يربطون بها هوياتهم الذاتية، خاصة في مرحلة ما بعد خروجهم من السجون، حيث يواجهون التهميش والإقصاء الاجتماعي، لذا يصبحون رجالا تحت الطلب لتنفيذ مهام تتطلب شجاعة الانتحار، فيجري استغلالهم من قبل جهات ومجاميع شتى. حتى في العمل السياسي، تعتمد بعض الأحزاب الثورية عليهم في فترة من فترات عملها، خاصة في ظروف العمل السري. حدث هذا في الاحزاب القومية واليسارية في العراق في الخمسينيات والستينيات، حيث استخدمتهم الأحزاب في صراعاتها السياسية، لما تتمتع به هذه الشخصيات من شجاعة وجرأة وطاعة عمياء على تنفيذ الواجبات الخاصة، وغالبا ما كانوا يتآمرون على أحزابهم للقفز إلى الصف الاول عند تسلم الحكم، لذا تعمد هذه الأحزاب للتخلص منهم وتصفيتهم بعد استتباب مرحلة تسلم السلطة. إذن لماذا هذا الإصرار على إضفاء صفة الدين والعروبة على هؤلاء؟
نعم إنها أزمة مجتمع غربي تعامل بعنصرية وتهميش مع العديد من مواطنيه، ممن هم ليسوا من أصول أوروبية خالصة، وكان التعامل ازدواجيا في الكثير من الأحيان، خاصة في ظروف الإخفاق. والأمثلة على ذلك كثيرة، فلاعب كرة القدم من أصول غير أوروبية يصبح بطلا أوروبيا بامتياز، وتلقى عليه الأوسمة والنياشين والألقاب حين يكون هدفه من يُرجّح الفوز، بينما تجري الاستهانة به ويشار إلى أصوله المُهاجرية إن أخفق في ضربة جزاء حاسمة لفريقه الأوروبي. وعندما يحتلون أوطاننا يظهرون كل براعتهم الجرمية ضدنا، شهدت بذلك ممارساتهم السادية في سجون بوكا وأبو غريب، ثم يبررون كل ذلك بأنها ممارسات فردية، على الرغم من أن من قاموا بكل ذلك هي مؤسساتهم وحكوماتهم، بينما يتهمون دينا وقومية بأحداث فردية، لم يثبت لحد الآن وقوف مؤسساتنا الحكومية أو الدينية خلفها.
إننا اليوم أمام مشكلة قديمة متجددة وهي، انتهازية الغرب وأنانيته المفرطة، ومحاولاتهم المستمرة في إبراز مجتمعاتهم على أنها مجتمعات ذات أهداف إنسانية عليا، كي يجعلوا من هذه الصورة الوردية نموذجا ثقافيا ونمطا حياتيا يفرضونه علينا. هي الأزمة نفسها التي تعاملوا بها في فلسطين والعراق وأفغانستان وبقاع أخرى. وإننا في الوقت الذي نترفّع عن تبرير ما حدث سواء في بلجيكا وقبلها فرنسا، فإننا نقول بأن على أوروبا أن تتصدى للأزمة الاجتماعية التي تعانيها أولا، وأن تتصالح مع ذاتها قبل كل شيء. كما أن على العرب أن يفهموا بأن الغرب ليس على قلب رجل واحد، وأن الأنانية والمصالح الضيقة والهويات الفرعية لها دور في تحديد سياساتهم تجاه الآخرين. ولعل أبرز موقف يؤكد اختلافهم هو موضوع الهجرة، حيث رحب البعض بها وفتح لها الحدود، بينما أغلق الآخرون حدودهم وبنوا جدرانا ووضعوا أسلاكا شائكة، وفاز اليمين المتطرف كرد فعل على رفض المهاجرين.
د.مثنى عبدالله
صحيفة القدس العربي