من الصعب تصديق أن هناك شيئا كارثيا آخر يمكن أن يصيب العراقيين ويتسبب في مقتل المزيد منهم، بعد الحصار الخانق لعام 1990 والغزو الأميركي سنة 2003 وما تلاه من حروب طائفية وتدمير وصراعات دموية وصلت ذروتها مع ظهور تنيظم الدولة الإسلامية.
لكن، لو صدقت التحذيرات الأميركية بشأن خطر حدوث طوفان جديد في بلاد الرافدين، على وقع انهيار سد الموصل فإن نكبة جديدة ستنظم لسجل نكبات العراق، تداعياتها أخطر وأكبر، وقد تؤدي لفناء مناطق بأكملها.
في الحادي والعشرين من يناير الماضي، تلقّى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي رسالة سرية من الرئيس الأميركي باراك أوباما.
ولم تكن الرسالة الشخصية، التي سلّمها للعبادي وزير الخارجية جون كيري، خلال مؤتمر دافوس، تتعلق بالحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية أو الوضع الفوضوي في العراق، بل بسدّ الموصل.
أن يتصدّر تداعي سدّ الموصل قائمة الاهتمامات الأميركية في العراق، ويكون محور رسالة موجّهة بسرية وبصفة شخصية من الرئيس الأميركي إلى رئيس الحكومة العراقي، (كشفت عن فحواها وكالة رويترز نقلا عن مسؤولين أميركيين)، فهذا يعني أن المسألة حرجة، خاصة وأنه معروف أن سد الموصل بني على أسس غير ثابتة تتعرض للتآكل المستمر. كما أدى نقص صيانة السد بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليه لفترة وجيزة في سنة 2014 إلى إضعاف بنيته التي تشوبها عيوب.
لكن المفارقة جاءت من خلال ردّ فعل الحكومة العراقية، التي رأت في التحذير السياسي الأميركي، الذي صاحبه تصعيد إعلامي لافت وصل إلى حدّ اعتبار انهيار سد الموصل أخطر من تنظيم داعش، تضخيم للمسألة الغاية منه تحويل الاهتمام عن المعركة الأصلية في الموصل، وهي المعركة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية.
وترى الحكومة الأميركية أن بغداد لا تأخذ الخطر على محمل الجد بما يكفي، وذلك حسبما توضح في مقابلات جرت بين الحكومة ومسؤولين بوزارة الخارجية ووزارة الدفاع والوكالة الأميركية للتنمية الدولية وغيرها من الوكالات، الأمر الذي دفع إلى التحذير عبر وسائل الإعلام في خطوة لاقت تأييدا دوليا وتحولت إلى ما يشبه الحملة الإعلامية التحذيرية والتحسيسية للعراقيين الذين لا يعرفون شيئا عن خطط الطوارئ لسد الموصل.
أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث في حال انهيار السد وارتفاع منسوب مياه نهر دجلة هذا الربيع قد يهلك قرابة نصف مليون شخص
وقال مسؤول أميركي “إنهم يتثاقلون في التحرك في هذا الأمر”، رغم أن وثائق كثيرة تؤكّد احتمال انهيار سد الموصل، ما يهدد الموصل، ثاني مدن العراق، والمناطق الواقعة على امتداد نهر دجلة، ويغرق أجزاء من بغداد.
وأوصت السفارة الأميركية في بغداد، مدعومة بتقارير لمنظمات حقوق الإنسان الدولية الناشطة في العراق، بإفراغ السد من المياه من أجل حماية نحو مليون ونصف المليون شخص من الخطر في حال تعرضه للانهيار.
وذكرت وثيقة حكومية أميركية صدرت في أواخر فبراير أن عددا يتراوح بين 500 ألف و1.47 مليون عراقي يعيشون في المناطق الأكثر عرضة للخطر على امتداد نهر دجلة لن يبقوا على قيد الحياة على الأرجح من جراء الفيضان ما لم يتم إجلاؤهم.
وقالت الوثيقة إن الطوفان سيجرف لمئات الأميال قذائف حربية لم تنفجر وكيميائيات وجثثا ومباني.
وأكّد بيان السفارة الأميركية على ضرورة ابتعاد سكان مدينتي الموصل وتكريت بين خمسة إلى ستة كلم عن ضفة النهر ليكونوا بأمان، أما الذين يعيشون في مناطق قرب سامراء، حيث يمكن السيطرة على موجة الفيضان عبر سد أصغر حجما ولاحتمال وصول المياه إلى منطقة أوسع، فسيكون عليهم الابتعاد نحو 16 كلم، وفقا للبيان.
وتشير خطة الطوارئ إلى فيضانات لمناطق في بغداد بما فيها المطار الدولي. ورجح البيان كذلك، غرق مناطق تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية أو أخرى متنازع عليها، ما سيفشل عمليات الإخلاء الحكومية. وتواجه الحكومة العراقية مشكلة كبيرة تتمثل في تعطل بعض بوابات السد المسؤولة عن تسريب مياه البحيرة التي تقبع خلفه تحسبا لانهيار محتمل في أي وقت؛ حيث يفسر نذير الأنصاري، الأكاديمي العراقي المتخصص في الهندسة المائية، ذلك موضحا أن “هناك بوابتي منفذ سفليتين فقط؛ واحدة منهما معطلة ومغلقة منذ عام 2013، وإذا كانت واحدة مغلقة فإن الأخرى لا تستطيع وحدها تسريب هذه الكمية من المياه”.
|
وإذا كانت التوقعات بزيادة كبيرة في منسوب المياه خلال شهر أبريل يليه فيضان كبير صحيحة، فإن معدل ملء البحيرة خلف السد سيكون أسرع بكثير من قدرة البوابة المتبقية على تسريب المياه، ومن ثم سيزداد الضغط على جسم السد بشكل يعرّضه حتما للخطر.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرّض فيها السد إلى خطر محدق. ويقول الأنصاري إنه خلال ثمانينات القرن الماضي اجتاح فيضان أحد فروع نهر دجلة، لكن البوابتين كانتا تعملان حينها بشكل جيد، وهو ما ساعد على تسريب المياه بسلاسة، “لكن إن لم يتمكنوا هذه المرة من إصلاح البوابة، فلن يتمكنوا من التخلص من كميات المياه الزائدة”.
ويبعد سد الموصل حوالي 50 كم شمال مدينة الموصل في محافظة نينوى شمال العراق على مجرى نهر دجلة. ويبلغ طوله 3.2 كيلومترا وارتفاعه 131 مترا، ويعتبر السد أكبر سد في العراق ورابع أكبر سد في الشرق الأوسط.
وقد حذر المهندسون العراقيون الذين شاركوا في بناء سد الموصل من أن خطر الانهيار بات وشيكوإذا انهار السد سوف تغرق جميع المدن والبلدات والقرى الواقعة على مسار نهر دجلة.
ومن المتوقع أن يبلغ ارتفاع منسوب المياه نحو خمسة وستين قدما إذا ما غرقت الموصل في غضون أربعة ساعات. وتشير التقديرات إلى أنه من الممكن أن يودي ذلك بحياة مليون شخص قبل وعند وصول “تسونامي” إلى بغداد.
ومنذ البداية، تم بناء السد على طبقات من الطين والجبس، واللذين ذابا بفعل المياه، ما أدى إلى خلق تجاويف تحت أساس السد. ولتجنب انهيار الهيكل الضخم للسد، يعمل المئات من العمال على ثلاث ورديات مهمتهم حقن التجاويف بخليط من الإسمنت الراسب لتجنب الأضرار الحاصلة في الأساس.
وعندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على السد في أغسطس عام 2014 لأكثر من 10 أيام، أوقف عمليات الحقن وأجبر العمال على الفرار ودمر معداتهم، إلى أن استعادت القوات الكردية السيطرة على موقع السد والمناطق المحيطة به، لاستئناف العمل.
ومع ذلك، فإن الحكومة لم تتمكن من إعادة تشغيل الحقن بالإسمنت لأن مصنع الإسمنت مازال تحت سيطرة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية. وعمدت السلطات العراقية إلى استيراد خليط الإسمنت الراسب من تركيا المجاورة. وتقلق مخاطر انهيار سد الموصل 96 بالمئة من سكان ثلاث محافظات، هي نينوى وديالى وصلاح الدين. وتعيش في هذه المحافظة أغلبية سنية، وهو ما يعني استبعاد إخلاء هذه المحافظات من ملايين العراقيين وترحيلهم إلى المحافظات الجنوبية التي يهيمن عليها الشيعة.
إجلاء الملايين
يشكك مراقبون في واقعية طرح خطة عراقية لإجلاء الملايين، ومنهم داليا العقيدي، الصحافية الأميركية من أصل عراقي، التي قالت إن الضغط على حكومة العراق، الذي مر بحروب طاحنة خلال العقد الأخير، لا يحمل أي منطق.
وفشل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من قبل في تأمين مأوى لثلاثة ملايين عراقي نزحوا خلال المواجهات الطائفية والحرب ضد تنظيم داعش، خصوصا في المحافظات الشمالية.
وتساءلت العقيدي، في مقال نشرته صحيفة “العرب ويكلي” التي تصدر باللغة الإنكليزية في لندن، “هل من المناسب الآن إطلاق حملة عسكرية لاستعادة مدينة الموصل التي تبعد مسافة 4 كيلومترات فقط عن السد من قبضة داعش”. ويتخوف خبراء عسكريون من إعلان الولايات المتحدة في 5 مارس الماضي أن قوات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن “تخطط لاستخدام قاذفات بي 52 الثقيلة في معركة تحرير مدينة الموصل”. وقالوا إن ضرب أهداف غير بعيدة عن السد باستخدام هذه القاذفات سيكون له أثر كبير على جسم السد الضعيف أصلا.
وقال مهندسون عملوا سابقا في السد إن فشل الحكومة في تعويض الآلات التي تم نهبها، وفي زيادة عدد العمال الذين فروا منذ السيطرة المؤقتة لداعش على السد قبل نحو عام، يعني أن حجم الفتحات في القاعدة الصخرية للسد صار أكبر وأكثر خطورة. وفي محاولة لتدارك هذا الخطر أرسلت الولايات المتحدة معدات تقنية وخبراء للمساعدة في مراقبة أداء السد. وإلى جانب الخبراء وسعت واشنطن من حضورها العسكري حوله.
وأحصى فلوريان نيهوف، وهو صحافي حرّ زار سد الموصل في 11 فبراير الماضي، 11 مروحية قتالية أميركية في المنطقة. لكن نيهوف، الذي قضى آخر 10 شهور في العراق، قال إنه رغم الجهود لإنقاذ البلد من الكارثة فإنه “لن يكون متفاجئا إذا وقع ما نخاف منه”.
مع ذلك يبدو أن الحكومة العراقية ليست جزءا من الحل، لكنها جزء من المشكلة. في 7 فبراير الماضي، على سبيل المثال، وفي قمّة التحذيرات من انهيار السدّ، وصف مكتب وزير الموارد المائية في بغداد حالة سد الموصل بـ”الجيدة”. وقال الوزير محسن الشمري “لا يوجد مشكلة من الممكن أن تقود إلى انهيار السد”.
ولا تبدو هذه التصريحات مقنعة لنيهوف الذي يرى أن ممارسات الحكومة العراقية والتعتيم على المعلومات حول الانهيار المحتمل للسد جزء من اللعبة السياسية التي تحكم البلاد. وقال “هؤلاء أشخاص فاسدون وغير أكفاء ويفضلون دائما دفن رؤوسهم في الرمال”.
|
ولم تعلن الحكومة العراقية إلى الآن عن خطة فعالة من الممكن أن يتبعها العراقيون في حالة انهيار السد.
وكان أبرز تصريح علني من جانب رئيس الوزراء حيدر العبادي عن السد -والذي لم ينشر على نطاق واسع- نصحه للملايين الذين يعيشون في مسار الطوفان المحتمل أن ينتقلوا إلى أرض مرتفعة لكنه لم يسرد تفاصيل تذكر.
ويعتقد نذير الأنصاري، وهو مهندس سابق في السد، أن عدم اليقين هو من يحكم حاليا تصرفات الناس الذين يقيمون على ضفاف نهر دجلة. وقال بأسى “كل يوم تقريبا أتلقى العشرات من الرسائل على بريدي الإلكتروني من أصدقاء وأحيانا أشخاص لا أعرفهم يتساءلون: ماذا عسانا أن نفعل، وأين بإمكاننا الذهاب؟ في الحقيقة لا أعرف ماذا علي أن أخبرهم، باستثناء أن يجهزوا أنفسهم للتعامل مع الأسوأ”.
لا تتحدث عن البلاء قبل وقوعه
يشير بعض المسؤولين العراقيين إلى أن الولايات المتحدة تبالغ في تقدير خطر السد لتحويل اللوم عنها في حالة انهياره وإلقائه على عاتق تنظيم الدولة الإسلامية بعدما أخفقت -كما يقولون- في إيجاد حل دائم خلال عشر سنــوات من احتلال قواتها للعراق.
لكن، بول سالم، نائب رئيس معهد الشرق الأوسط، مقره واشنطن، يرى أن الثقافة السائدة تفسر ولو جانبا من موقف بغداد تجاه السد. وقال “أسلوب أميركا في إدارة الأزمة هو أن من الأفضل أن تأمن بدلا من أن تحزن لكن أسلوب العرب هو أن لا تتحدث عن البلاء قبل وقوعه”. وقال مسؤولون أميركيون إن واشنطن تشعر أن بغداد لم تأخذ هذا الخطر على محمل الجد بما يكفي.
وقال دبلوماسي بارز في بغداد إن الحكومة الأميركية قلقة من بطء بغداد في إبلاغ المدنيين بشأن الخطر المحتمل. وأضاف “الاختلاف يتمثل في كيفية تبرير عدم رؤيتك للأمر… هل تبرره بحقيقة أن وجود الحكومة نفسه يواجه خطرا أم تبرره مثل الأميركيين بأن العراقيين متباطئون”.
صحيفة العرب اللندنية
وعرض العبادي، في بيان على موقعه الإلكتروني، مراجعة لوضع السد وخطط حكومته لإصلاحه.
وطرح تصورا محتملا لانهيار السد تغمر فيه موجة بارتفاع 15 مترا أجزاء من الموصل خلال أربع ساعات. وقال إن المياه قد تصل إلى تكريت في اليوم التالي وربما تصل موجة ارتفاعها عشرة أمتار إلى العاصمة بغداد بحلول اليوم الرابع. والنصيحة الوحيدة التي قدمها للسكان هي الابتعاد مسافة ستة كيلومترات عن النهر. وردّ على هذا البيان مصدر حكومي قائلا “لا أعتقد أنه سيكون هناك أكثر من ذلك… الهدف هو القول: أعلنا على الأقل الأمر على ناس في مكان ما”.
ويقول نيهوف “الناس يريدون أن يعلموا أين بإمكانهم الذهاب. من الممكن أن تختفي الموصل خلال ساعات، بينما الناس لا يعلمون أين يذهبون. المياه حتما ستصل إلى سامراء وتكريت أيضا”.
وفي الشهر الماضي، وقعت الحكومة عقدا بقيمة 296 مليون دولار مع مجموعة تريفي الإيطالية لتدعيم سد الموصل في شمال العراق. لكنها لم تعلن أي خطط محددة لمحاولة إنقاذ الناس في حالة انهياره ولم تصدر تعليمات تفصيلية عن كيفية التصرف على نحو آمن.