تتشابه الظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية الراهنة بالظروف التي سادت أو هيأت لقيام الحرب العالمية الأولى والثانية على حد سواء. فالعوامل التي ساهمت في القيام الحرب العالمية الأولى تتلخص: من الناحية السياسية والعسكرية قيام التكتلات والأحلاف الدولية، ومن الناحية الاقتصادية التنافس الصناعي والتجاري الذي بلغ حدا كبيرًا بين الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا من جهة أخرى. أما عن عوامل قيام الحرب العالمية الثانية فهي تتشابه إلى حد بعيد مع عوامل الحرب العالمية الأولى، ويمكن لنا أن نضيف أيضا بعض العوامل التي مهدت الطريق لقيام الحرب العالمية الثانية منها: قسوة الشروط التي فرضتها الدول المنتصرة “الحلفاء” على الدول المهزومة”الوسط” في معاهدة فرساي، مما أدى إلى خلق حالة من التوتر والحقد لدى شعوب الدول المهزومة. وازدياد التنافس التجاري والصناعي بين الدول الأوروبية. وظهور الأزمات الاقتصادية العالمية كأزمة عام 1929م، وفشل عصبة الأمم في حل الخلافات والنزاعات الدولية.
وفي الوقت الراهن فإن معظم هذه العوامل إن لم تكن جلها حاضرة في المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري والمؤسساتي للجماعة الدولية، من حيث حالة الاستقطاب السياسي والمحاور السياسية والأزمة الاقتصادية العالمية والتحالفات العسكرية وفشل الأمم المتحدة في حل الأزمات الدولية وآخرها الأزمة السورية، ومحاولة روسيا استعادة دورها الدولي الذي فقدته بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في العام 1991م، وفي هذا السياق نتساءل هل الإنسانية مقبلة في على حرب عالمية ثالثة التي سيكون لها ارتداداتها على بنية النظام الدولي؟
إن تشابه الظروف ليس بالضرورة يدفع إلى قيام حرب عالمية ثالثة، لكن هذا لا يمنع من القول إن الجماعة الدولية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وعلى خلفية الأزمة السورية والتدخل العسكري الروسي المباشر فيها، والإيراني أيضاً تعيش حالة صراع قد تكون مقدمة لحرب عالمية ثالثة فهي يوم حرب عالمية مصغرة وتجري في إطار جغرافي معين.
فإن حالة الاشتباك التي جسدها التدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية أثار العديد من الإشكاليات منها:
1- تهديد الأمن الإقليمي: شكّل التدخل الروسي خطرًا كبيرا على المنظومة الأمنية في الشرق الأوسط وقد يؤدي هذا التدخل لتفجر الصراع، هذا إذا تخلت الدول عن حساباتها العقلانية. فإسقاط المقاتلات التركية المقاتلة الروسية كان بمنزلة إعلان حرب على دولة كبرى، وكاد يدفع بالمنطقة إلى حافة الحرب، لولا رد الفعل الروسي العقلاني، الذي بدد احتمالات تفجر الموقف، وإن كانت فرص تفاقم الصراع تظل قائمة.
2- الرؤية الروسية لحل الأزمة السورية: فحل الأزمة بالنسبة لروسيا في الابقاء على بشار الأسد رئيسا وهذا يتناقض مع القوى المعارضة والقوى الداعمة لها. فهذه الرؤيتين المتناقضتين كفيلة في تعقيد فرص تسوية الأزمة السورية.
3- غياب التوافق الدولي: حيث تشير أغلب التحليلات السياسية بأن التدخل العسكري الروسي تم بدون توافق بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وهي تعد سابقة ثانية، فالأولى كانت في تدخل العسكري الروسي في الأزمة الأوكرانية بذريعة حماية أمنها القومي في الجوار المباشر، على خلاف تدخلها في سوريا، بعيدة عن جوارها الجغرافي، وبذلك تكون قد وضعت روسيا نفسها في صراع مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية.
لذا فإن مرحلة جديدة من الصراع الدولي قد بدأت من سوريا، وربما قد تؤدي مآلات هذا الصراع إلى تغير موازين القوى العالمية، وإعادة ترتيب القوى الكبرى على قمة النظام الدولي. وتطرح تطورات الأزمة في سوريا أربعة مسارات رئيسة:
الأول -حرب عالمية الثالثة: وقد طرح هذا السيناريو على معظم دوائر البحث بشكل جدي لاسيما بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية. والذي عزز هذا السيناريو أن روسيا العائدة إلى تفاعلات العلاقات الدولية، سوف ترد ردا موجعا على تركيا، وأن هذ الرد سيكون توطئة لإعلان حرب عالمية ثالثة، لكن روسيا استبقت لنفسها حق الرد، وعمدت إلى اتباع إجراءات عقابية لا ترقى لمرتبة الحرب. كما بدا أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية حريصة على عدم التورط العسكري بشكل كبير في الشرق الأوسط، فضلًا عن جملة من “دعوات الاحتواء والتهدئة” التي صدرت من قبل حلف شمال الأطلسي “الناتو” والدول الأوروبية، رغبة في عدم التصعيد، بالإضافة إلى أن تركيا ذاتها أصبحت غير راغبة في التصعيد، بعدما أدركت أن رهانها على حلف “الناتو” كان خاطئا. ورغم أن هذا السيناريو قد فقد زخمه، وأصبح مستبعدا، فإنه سيظل قائما، في ظل أزمة متلاحقة التطورات، يصعب وضع أطر حاكمة لها، بحكم تعقد المشهد، وتداخل المصالح الإقليمية والدولية فيه. ومع ذلك تخشى الدول القوى الكبرى من وقوع هكذا نوع من الحروب لنتائجها الكارثية على الجميع، وتعمل بقوة على تجنبه قدر المستطاع.
ثانيا -حرب عالمية مصغرة: وهي أشبه بحرب الثلاثين عام الأوروبية التي دارت بين الكاثوليك والبروتستانت ما بين عامي “1618م/1648م”، وهي الآن قد تدار بنسختها الإسلامية بين السُنة بقيادة المملكة العربية السعودية وحلفائها في المنطقة وبين الشيعة بقيادة إيران وحلفائها أيضا في المنطقة. هذه الحرب وإن كانت مصغرة وتجري في رقعة جغرافية معينة، إلا أن تداعياتها الإقليمية غاية في السوء إذ ستزيد من حالة الخراب في العراق واليمن وسوريا ولبنان الذي قد يؤسس لحالة التقسيم تلك الدولة ويضع مصر أمام مستقبل مجهول. أما عن تداعيات العالمية لهذه الحرب تتمثل في تدفق اللاجئين من المشرق العربي إلى أوروبا وانخفاض أسعار النفط.
أن هذه الحرب ستسمر، بل ربما تشتد، وتتسع رقعتها، هذا ما لم تتخذ القوى الإقليمية المتضررة من الاجتياح الإيراني إجراءات ملموسة لمواجهتها، والآمال في هذا المجال معقودة على تحالف متين سعودي – تركي كمحور أساسي، تتمفصل حوله القوى الأخرى الفاعلة في الإقليم ومنها: قطر والإمارات واقليم كردستان العراق والكويت. أما مصر فهي على رغم أهميتها وضرورتها تعيش محنتها نتيجة أوضاعها الداخلية الخاصة بها، ولكن لا بد من مساعدتها، وتمكينها من الخروج من مأزقها عبر حوار وطني شامل، حقيقي مسؤول بعيد عن الحلول الراديكالية الوحيدة الاتجاه.
ثالثا -الحرب الباردة: فقد كانت الأطراف الدولية تشارك في الأزمة السورية عن طريق وكلائها، لكن الجديد، هنا، أن الحلف المساند للنظام السوري قد أصبح طرفا مباشرا على الأرض بقيادة روسية، في حين أن المعسكر الآخر لا يزال يدعم من الخارج دون التورط المباشر. ولا شك في أن التدخل الروسي قد يعزز من أمد الحرب غير المباشرة، خاصة في حالة مهاجمة القوات الروسية للمعارضة في شمالي سوريا، لاسيما أن تركيا الآن قد يصعب عليها القيام بأية أعمال دعم لوجستية عبر الحدود بسبب الوجود الروسي المتحفز، رغبة في الانتقام، ومنعا لأية تعزيزات تركية لحلفائها في الداخل السوري. كما أن دول الخليج العربي يصعب تدخلها بشكل مباشر لمساندة قوي المعارضة، لكن يمكنها تعزيز المساعدات المقدمة لها، وقد يتم استدعاء أعداد كبيرة من المجاهدين “السنة” إلى الداخل السوري تحت نبرة الصراع المذهبي، وهم الذين تفتحت عقولهم علي جهاد السوفييت في أفغانستان، بما معناه محاولة استنساخ النموذج الأفغاني من جديد. وهذا السيناريو قد يكون قابلا للتحقق، وربما يسبب خسائر فادحة للقوات الروسية، خاصة في حالة إطالة الأزمة زمنيا، وهو أمر قد لا تقوي عليه روسيا، في وقت يعاني فيه اقتصادها وطأة العقوبات الغربية، وانخفاض أسعار النفط.
رابعا –تقسيم سايكس -بيكو الجديد: بمعني وجود تفاهم ضمني غير معلن بين القوتين (الولايات المتحدة – روسيا) لتقسيم مناطق النفوذ بينهما في المنطقة -الصفقة غير المعلنة -بحيث يكون لروسيا نفوذها في سوريا، مقابل أن يكون للأمريكيين نفوذهم في العراق. وربما تقوم الصفقة علي التوافق علي تسوية ما للأزمة السورية، يكون مضمونها “رحيل الأسد دون رحيل النظام”، مع ضمان المصالح الروسية، وإلي حد ما الإيرانية، في إطار صفقة كبري تضمن للأمريكيين مصالحهم في الشرق الأوسط، بما فيها ضمان أمن إسرائيل، والنفط، إلي حد ما، والسماح لتركيا بالقيام بدور ما، بما يضمن لهم الخروج الآمن من الشرق الأوسط، في إطار التوجه شرقا، مقابل دور روسي محدود في الشرق الأوسط، والتجاوز عن العقوبات الغربية المفروضة علي روسيا، جراء تدخلها في أوكرانيا، وتأجيل قبول دول أخري من دول شرق أوروبا لحلف الناتو. فإذا كانت الولايات المتحدة عازمة على الخروج، فلتخرج بمنطق “الصفقة ذات الضمانات”حماية لمصالحها أفضل من أن تخرج خاوية الوفاض.
وعلى ضوء تلك الاحتمالات ما هي البنية التي سيستقر عليها النظام الدولي.
النظام الدولي هو مصطلح غربي، تطور في مرحلتين رئيسيتين: ولادة نظام وستفاليا في القرن السابع عشر، وصعود الإمبراطوريات الغربية في القرن التاسع عشر. وقد تنوعت بنية النظام الدولي عبر المراحل التاريخية المختلفة من نظام دولي متعدد الأقطاب في القرن التاسع عشر إلى نظام ثنائي القطبية في مرحلة الحرب الباردة إلى نظام القطبية الواحدة، إلى اللانظام منذ منتصف الثاني عام2008 وغياب القواعد المستقرة أوشبه المستقرة للتنافس في النصف الثاني وحتى يومنا هذا.
وعليه نؤسس لنقول: إنه في حالة اندلاع حرب عالمية ثالثة فهذا سيقود إلى بناء نظام دولي جديد على غرار ماحدث بعد الحرب العالمية الأولى والثانية -في حال تجنب استخدام أسلحة الدمار الشامل -، ويحدد معالمه الدول المنتصره فيها.
لكن إذا ساد أحد المشاهد الثلاث الأخرى فإنه سيكون استمرارًا لحالة اللانظام وليس العودة إلى نظام متعدد الأقطاب الذي ساد في القرن التاسع عشر وذلك للأسباب الآتية:
لم تزل الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأكبر في الجماعة الدولية، بمقدرات الإقتصادية والعسكرية والإعلامية والعلمية تفوق مجموع القوى التالية لها مجتمعة. لكن إدراة الرئيس باراك أوباما تعلمت حدود القوة، والتكاليف الباهظة للتصرف كقوة منفردة، وعدم الاكتراث بقوى العالم الأخرى من الدرجة الثانية. أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية أقل تدخلية مما كانت عليه. وأكثر تركيزًا على جهود الحفاظ على عوامل التفوق واحتواء الطموحات المتزايدة لدول مثل روسيا والصين.
روسيا، من جهتها، أضعف بكثير من تبوؤ الموقع الذي احتله الاتحاد السوفييتي، وبالرغم من محاولاتها الرد على التوسع الغربي وتوكيد دورها في دول مثل روسيا وأرمينيا ودول وسط آسيا. فإن اهتمامها الأكبر يتعلق بخارجها القريب، لاسيما في أوروبا والقوقاز، حيث تتهددها المخاطر بدون أن تعرف كيفية احتواء هذه المخاطر.
الصين، من جهة أخرى، ولعوامل هيكلية وطبيعية، تكاد تصل إلى نهاية طريق النمو الاقتصادي الكبير؛ وهي لا ترغب، على أية حال، في خوض صراع مباشر وواسع النطاق مع القوى الغربية، التي لم تزل تتحكم في النظام الاقتصادي العالمي. أما أوروبا، فلم تزل حائرة بين طريق الوحدة والحفاظ على هوية وسيادة الدولة القومية، والتكاليف التي يفرضها كل من الخيارين. خلاصة القول: أن الأحداث تتسارع وتتشابك وتحديات تتعاظم الأمر الذي يتطلب من الدول العربية وحدة الصف في مواجهتها، وأن تتجاوز الخلافات البينية.
وحدة الدراسات العربية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية