على نحو غير متوقع، تشهد الأزمات الناشبة في منطقة الشرق الأوسط تحركات وتفاعلات باتجاه تسويات سياسية، وذلك بعد ما يقرب من عام، حاولت خلاله دول المنطقة حسم الأزمات والمواجهات فيها بالقوة المسلحة. حدث ذلك في اليمن عبر التحالف السعودي – العربي، وفي سوريا بالتدخل الروسي لدعم نظام دمشق، وكذلك في سوريا والعراق بواسطة التحالف الدولي الذي يوجه ضربات جوية لمواقع تنظيم “الدولة الإسلامية”.
ولم يختلف الأمر كثيرا في ليبيا، حيث تصاعدت حدة المواجهة بين الميليشيات والفصائل المسلحة، التي يدعي كل منها امتلاك الشرعية، سواء الثورية أو الدستورية، في ظل فراغ سياسي وأمني، أتاح بدوره وصول ظهور بؤر تمركز لإسلاميين جهاديين، مما زاد الموقف تعقيدا، وفتح باب الصراع المسلح على مصراعيه.
التحول نحو التسوية جاء اضطراريا نتيجة عدم قدرة الأطراف المعنية على تحقيق الحسم المطلوب عسكريا بالصورة الكافية لتأمين المكاسب السياسية، والغايات الاستراتيجية. فلو كانت التسوية هدفا لذاتها، لتحركت الأطراف المعنية نحوها قبل تفاقم الأوضاع، وتأزم الموقف في كل الملفات والأزمات التي تعقدت، وتشابكت مساراتها، ووصلت -أو تكاد- إلي نقطة اللا عودة. وقد سنحت بالفعل، خلال الأعوام الخمسة الماضية، فرص متتالية لطرح تسويات سياسية فعالة ومتوازنة لإنهاء الأزمة في سوريا، واليمن، وليبيا، بل وأيضا في لبنان التي تعاني فراغا رئاسيا طويلا. ومن اللافت أن بعض الأطراف المسئولة عن تضييع تلك الفرص السياسية هي ذاتها التي لم تبادر إلي تفعيل المسار العسكري، ولم تساعد على اعتماده خيارا استراتيجيا.
ثمة عامل أساسي يدفع إلي وصف مشاريع التسويات المطروحة بالقصور. ذلك أن الدول والأطراف، المفترض انخراطها في تلك التسويات، يخوض بعضها التفاوض مرغما، نتيجة اختلال موازين القوي على الأرض في غير مصلحتها، الأمر الذي يجعل تكلفة عدم قبول التفاوض عالية، خاصة مع عدم وجود مؤشرات على إمكانية تصحيح الاختلال في ميزان القوة، أو تحسين الوضع الميداني. فيكون الخيار الأفضل نسبيا هو إعلان قبول التسوية السياسية مبدئيا، ثم محاولة التحايل على استحقاقات تلك التسويات غير المرضية، سواء بوضع شروط تعجيزية، أو المناورة في المسائل الإجرائية، مثل تشكيل الوفود، وترتيب أولويات الأجندة التفاوضية، بل وأيضا المرجعيات التي تستند إليها أفكار التسوية المطروحة. وقد شهدت أزمات المنطقة، دون استثناء، ذلك النمط من التعامل مع الحلول السياسية بشكل اضطراري. ففي اليمن، نجح التدخل العسكري السعودي – العربي في منع اكتمال سيطرة الحوثيين على الدولة، وتثبيت أمر واقع جديد. وتحت ضغط العمليات العسكرية، والمستجدات الإقليمية، خصوصا الاتفاق النووي الإيراني – الغربي، قبل الحوثيون تدشين مسار تفاوضي يوصل إلي تسوية سياسية، وهو المسار الذي كانوا يرفضونه من قبل، وكانت لهم تجارب سابقة في التحايل عليه، وتحديدا تلك المناورات السياسية التي قاموا بها في أثناء جولات الحوار الوطني قبل عامين، ثم رفضهم تنفيذ ما انتهي إليه الحوار، والاستيلاء بالقوة على المدن الرئيسية، وفرض السيطرة على مؤسسات الدولة. وعلى المنوال نفسه، جاء الانخراط في المسار السياسي مجددا، اضطرارا وليس طوعا، فيما بدا قبولا مرحليا لاستهلاك الوقت، بينما المواجهات على الأرض مستمرة، على أمل تغيير موازين القوة بشكل يغير النتائج المتوقعة من التفاوض، أو يغني عن المسار السياسي أساسا، ويفرض على الأرض واقعا لا مجال للتفاوض حوله.
وفي سوريا، قلب التدخل العسكري الروسي دفة العمليات العسكرية الجارية، بشكل كبير، لمصلحة القوات الحكومية، بعد أن كانت تعرضت لانتكاسات متتالية لمصلحة قوات تنظيم “الدولة الإسلامية”، وبدرجة أقل فصائل المعارضة المسلحة. فغير التدخل الروسي العسكري المباشر المعطيات الأساسية لأي مسار سياسي محتمل. واستغلت موسكو ذلك في فرض مسار سياسي مختلف نسبيا عن ذلك المعلق منذ قبل ثلاثة أعوام، وعرف باسم “تفاهمات جنيف”. ورغم أن المسار الجديد لا يقدم الحد الأدني من متطلبات تسوية سياسية ناجحة، وقابلة للاستمرار، فإن المأزق العسكري والسياسي الذي تواجهه المعارضة السورية دفعها إلي قبول الانضمام إلي ذلك المسار. ووجدت المعارضة نفسها مضطرة لرفع سقف التنازلات تدريجيا. وأصبح الحل السياسي المطروح عليها ليس مرحلة انتقالية، يتم في بدايتها أو حتي خلالها تغيير نظام الحكم، وإنما مرحلة انتقالية في ظل وجود النظام الحالي وبقيادته. فتئول طموحات السوريين في التغيير إلي استبدال بعض الشخصيات في مؤسسات الدولة بأخرى، وليس تغيير آليات، أو أسس النظام السياسي، أو تحريره من سيطرة النظام القائم.
الوضع في ليبيا يختلف في التفاصيل فقط، فالانقسام هناك وصل إلي حد الازدواج المؤسسي، وتنازع الشرعية بين المؤتمر الوطني والبرلمان، قبل أن تنتهي فترة عمل كل منهما، فأضيف الفراغ المؤسسي إلي الفراغ الأمني، وتعدد مراكز القوة المسلحة. وأمام عدم قدرة أي من الأطراف المتصارعة على فرض السيطرة، أو إنزال هزيمة كاملة بالقوي الأخرى، نجحت جهود المبعوث الأممي (برناردينو ليون، وبعده مارتن كوبلر) في إيجاد صيغة اتفاق لا يلبي مطالب أي من الأطراف جميعا. فراحت كلها تعلن قبوله، بينما يسعي بعضها إلي تعديله، وبعضها الآخر إلي تعطيله.
ومن اللافت أنه في الحالتين السورية والليبية، ركزت العملية التفاوضية على تشكيل حكومة جديدة، تسمي في سوريا حكومة انتقالية، وفي ليبيا حكومة توافق. وفي كلتيهما، يبتعد المسار السياسي تدريجيا عن فكرته الأساسية، وهي وقف الصراع المسلح، وتحقيق مطالب الشعب دون مزيد من الدماء. والصورة في اليمن أكثر وضوحا، حيث المسار السياسي متعثر، بينما المواجهات المسلحة لم تصل بعد إلي حد إجبار الطرفين أو أحدهما على التعامل بجدية مع تسوية سلمية.
هكذا، كل مشاريع التسوية المطروحة بالمنطقة تحمل داخلها أسباب فشلها، لذا تعاني كل منها معضلات متنوعة، وتواجه عثرات متراكبة، تحول ليس فقط دون نجاحها، بل دون انطلاقها أساسا بشكل سليم. فالهدف النهائي من المفاوضات غير متفق عليه بين الأطراف، بل ليس واضحا أساسا. وكل ما يتلو ذلك من مراحل وإجراءات يظل محل خلاف بالضرورة.
التسويات الحقيقية الصالحة للبقاء لها شروط، أولها أن تجسد موازين القوة على الأرض، مما يعني بدوره أن تكون تلك الموازين دافعة نحو اقتناع الأطراف بضرورة التسوية، أو على الأقل بعدم ممانعتها، وأنها الخيار الأفضل لها. الشرط الثاني ألا تتعارض التسوية مع أهداف ومصالح الدول القادرة على منعها، أو إفشالها، ليس فقط آنيا، وإنما أيضا مستقبلا، ولو إلي مدي زمني محدد. وقبل كل ذلك، هناك المتطلب الأساسي لنجاح أي تحرك، سواء كان سياسيا أو عسكريا، وهو أن يكون هدفه الحقيقي تحقيق الاستقرار، وتوفير بيئة آمنة للشعوب التي صارت، بفعل انتهاكات الداخل وتدخلات الخارج، لا تطمع في أكثر من الاحتفاظ بحق البقاء.
سامح راشد
مجلة السياسة الدولية ، العدد 204، إبريل 2016