أزمات المنطقة أمام تسويات منقوصة

أزمات المنطقة أمام تسويات منقوصة

version4_1459954973

على نحو‮ ‬غير متوقع، تشهد الأزمات الناشبة في منطقة الشرق الأوسط تحركات وتفاعلات باتجاه تسويات سياسية،‮ ‬وذلك بعد ما يقرب من عام، حاولت خلاله دول المنطقة حسم الأزمات والمواجهات فيها بالقوة المسلحة‮. ‬حدث ذلك في اليمن عبر التحالف السعودي‮ – ‬العربي،‮ ‬وفي سوريا بالتدخل الروسي لدعم نظام دمشق،‮ ‬وكذلك في سوريا والعراق بواسطة التحالف الدولي الذي يوجه ضربات جوية لمواقع تنظيم‮ “‬الدولة الإسلامية‮”.‬

ولم يختلف الأمر كثيرا في ليبيا، حيث تصاعدت حدة المواجهة بين الميليشيات والفصائل المسلحة، التي يدعي كل منها امتلاك الشرعية،‮ ‬سواء الثورية أو الدستورية، في ظل فراغ‮ ‬سياسي وأمني، أتاح بدوره وصول ظهور بؤر تمركز لإسلاميين جهاديين،‮ ‬مما زاد الموقف تعقيدا،‮ ‬وفتح باب الصراع المسلح على مصراعيه‮.‬

التحول نحو التسوية جاء اضطراريا نتيجة عدم قدرة الأطراف المعنية على تحقيق الحسم المطلوب عسكريا بالصورة الكافية لتأمين المكاسب السياسية،‮ ‬والغايات الاستراتيجية‮. ‬فلو كانت التسوية هدفا لذاتها، لتحركت الأطراف المعنية نحوها قبل تفاقم الأوضاع،‮ ‬وتأزم الموقف في كل الملفات والأزمات التي تعقدت،‮ ‬وتشابكت مساراتها،‮ ‬ووصلت‮ -‬أو تكاد‮- ‬إلي نقطة اللا عودة‮. ‬وقد سنحت بالفعل،‮ ‬خلال الأعوام الخمسة الماضية، فرص متتالية لطرح تسويات سياسية فعالة ومتوازنة لإنهاء الأزمة في سوريا،‮ ‬واليمن،‮ ‬وليبيا،‮ ‬بل وأيضا في لبنان التي تعاني فراغا رئاسيا طويلا‮. ‬ومن اللافت أن بعض الأطراف المسئولة عن تضييع تلك الفرص السياسية هي ذاتها التي لم تبادر إلي تفعيل المسار العسكري،‮ ‬ولم تساعد على اعتماده خيارا استراتيجيا‮.‬

ثمة عامل أساسي يدفع إلي وصف مشاريع التسويات المطروحة بالقصور‮.‬ ذلك أن الدول والأطراف،‮ ‬المفترض انخراطها في تلك التسويات، يخوض بعضها التفاوض مرغما،‮ ‬نتيجة اختلال موازين القوي على الأرض في‮ ‬غير مصلحتها،‮ ‬الأمر الذي يجعل تكلفة عدم قبول التفاوض عالية، خاصة مع عدم وجود مؤشرات على إمكانية تصحيح الاختلال في ميزان القوة،‮ ‬أو تحسين الوضع الميداني‮. ‬فيكون الخيار الأفضل نسبيا هو إعلان قبول التسوية السياسية مبدئيا،‮ ‬ثم محاولة التحايل على استحقاقات تلك التسويات‮ ‬غير المرضية،‮ ‬سواء بوضع شروط تعجيزية،‮ ‬أو المناورة في المسائل الإجرائية،‮ ‬مثل تشكيل الوفود،‮ ‬وترتيب أولويات الأجندة التفاوضية،‮ ‬بل وأيضا المرجعيات التي تستند إليها أفكار التسوية المطروحة‮. ‬وقد شهدت أزمات المنطقة،‮ ‬دون استثناء،‮ ‬ذلك النمط من التعامل مع الحلول السياسية بشكل اضطراري‮. ‬ففي اليمن، نجح التدخل العسكري السعودي‮ – ‬العربي في منع اكتمال سيطرة الحوثيين على الدولة،‮ ‬وتثبيت أمر واقع جديد‮. ‬وتحت ضغط العمليات العسكرية،‮ ‬والمستجدات الإقليمية، خصوصا الاتفاق النووي الإيراني‮ – ‬الغربي، قبل الحوثيون تدشين مسار تفاوضي يوصل إلي تسوية سياسية،‮ ‬وهو المسار الذي كانوا يرفضونه من قبل، وكانت لهم تجارب سابقة في التحايل عليه،‮ ‬وتحديدا تلك المناورات السياسية التي قاموا بها في أثناء جولات الحوار الوطني قبل عامين، ثم رفضهم تنفيذ ما انتهي إليه الحوار،‮ ‬والاستيلاء بالقوة على المدن الرئيسية،‮ ‬وفرض السيطرة على مؤسسات الدولة‮. ‬وعلى المنوال نفسه،‮ ‬جاء الانخراط في المسار السياسي مجددا، اضطرارا وليس طوعا،‮ ‬فيما بدا قبولا مرحليا لاستهلاك الوقت،‮ ‬بينما المواجهات على الأرض مستمرة،‮ ‬على أمل تغيير موازين القوة بشكل يغير النتائج المتوقعة من التفاوض، أو يغني عن المسار السياسي أساسا،‮ ‬ويفرض على الأرض واقعا لا مجال للتفاوض حوله‮.‬

وفي سوريا، قلب التدخل العسكري الروسي دفة العمليات العسكرية الجارية،‮ ‬بشكل كبير، لمصلحة القوات الحكومية،‮ ‬بعد أن كانت تعرضت لانتكاسات متتالية لمصلحة قوات تنظيم‮ “‬الدولة الإسلامية‮”‬،‮ ‬وبدرجة أقل فصائل المعارضة المسلحة‮. ‬فغير التدخل الروسي العسكري المباشر المعطيات الأساسية لأي مسار سياسي محتمل‮. ‬واستغلت موسكو ذلك في فرض مسار سياسي مختلف نسبيا عن ذلك المعلق منذ قبل ثلاثة أعوام،‮ ‬وعرف باسم‮ “‬تفاهمات جنيف‮”. ‬ورغم أن المسار الجديد لا يقدم الحد الأدني من متطلبات تسوية سياسية ناجحة،‮ ‬وقابلة للاستمرار، فإن المأزق العسكري والسياسي الذي تواجهه المعارضة السورية دفعها إلي قبول الانضمام إلي ذلك المسار‮. ‬ووجدت المعارضة نفسها مضطرة لرفع سقف التنازلات تدريجيا‮. ‬وأصبح الحل السياسي المطروح عليها ليس مرحلة انتقالية،‮ ‬يتم في بدايتها أو حتي خلالها تغيير نظام الحكم، وإنما مرحلة انتقالية في ظل وجود النظام الحالي وبقيادته‮. ‬فتئول طموحات السوريين في التغيير إلي استبدال بعض الشخصيات في مؤسسات الدولة بأخرى، وليس تغيير آليات،‮ ‬أو أسس النظام السياسي،‮ ‬أو تحريره من سيطرة النظام القائم‮.‬

الوضع في ليبيا يختلف في التفاصيل فقط، فالانقسام هناك وصل إلي حد الازدواج المؤسسي،‮ ‬وتنازع الشرعية بين المؤتمر الوطني والبرلمان،‮ ‬قبل أن تنتهي فترة عمل كل منهما،‮ ‬فأضيف الفراغ‮ ‬المؤسسي إلي الفراغ‮ ‬الأمني،‮ ‬وتعدد مراكز القوة المسلحة‮. ‬وأمام عدم قدرة أي من الأطراف المتصارعة على فرض السيطرة،‮ ‬أو إنزال هزيمة كاملة بالقوي الأخرى، نجحت جهود المبعوث الأممي‮ (‬برناردينو ليون،‮ ‬وبعده مارتن كوبلر‮) ‬في إيجاد صيغة اتفاق لا يلبي مطالب أي من الأطراف جميعا‮. ‬فراحت كلها تعلن قبوله،‮ ‬بينما يسعي بعضها إلي تعديله،‮ ‬وبعضها الآخر إلي تعطيله‮.‬

ومن اللافت أنه في الحالتين السورية والليبية، ركزت العملية التفاوضية على تشكيل حكومة جديدة، تسمي في سوريا حكومة انتقالية، وفي ليبيا حكومة توافق‮. ‬وفي كلتيهما،‮ ‬يبتعد المسار السياسي تدريجيا عن فكرته الأساسية،‮ ‬وهي وقف الصراع المسلح،‮ ‬وتحقيق مطالب الشعب دون مزيد من الدماء‮. ‬والصورة في اليمن أكثر وضوحا، حيث المسار السياسي متعثر، بينما المواجهات المسلحة لم تصل بعد إلي حد إجبار الطرفين أو أحدهما على التعامل بجدية مع تسوية سلمية‮.‬

هكذا،‮ ‬كل مشاريع التسوية المطروحة بالمنطقة تحمل داخلها أسباب فشلها، لذا تعاني كل منها معضلات متنوعة،‮ ‬وتواجه عثرات متراكبة،‮ ‬تحول ليس فقط دون نجاحها،‮ ‬بل دون انطلاقها أساسا بشكل سليم‮. ‬فالهدف النهائي من المفاوضات‮ ‬غير متفق عليه بين الأطراف،‮ ‬بل ليس واضحا أساسا‮. ‬وكل ما يتلو ذلك من مراحل وإجراءات يظل محل خلاف بالضرورة‮.‬

التسويات الحقيقية الصالحة للبقاء لها شروط، أولها أن تجسد موازين القوة على الأرض،‮ ‬مما يعني بدوره أن تكون تلك الموازين دافعة نحو اقتناع الأطراف بضرورة التسوية،‮ ‬أو على الأقل بعدم ممانعتها،‮ ‬وأنها الخيار الأفضل لها‮. ‬الشرط الثاني ألا تتعارض التسوية مع أهداف ومصالح الدول القادرة على منعها،‮ ‬أو إفشالها، ليس فقط آنيا،‮ ‬وإنما أيضا مستقبلا،‮ ‬ولو إلي مدي زمني محدد‮. ‬وقبل كل ذلك،‮ ‬هناك المتطلب الأساسي لنجاح أي تحرك،‮ ‬سواء كان سياسيا أو عسكريا، وهو أن يكون هدفه الحقيقي تحقيق الاستقرار،‮ ‬وتوفير بيئة آمنة للشعوب التي صارت،‮ ‬بفعل انتهاكات الداخل وتدخلات الخارج، لا تطمع في أكثر من الاحتفاظ بحق البقاء‮.‬

سامح راشد
مجلة السياسة الدولية ، العدد 204، إبريل 2016