دعونا نتفق أولا علي أن فشلنا المتكرر في إنجاز إصلاح اقتصادي حقيقي في مصر، عمره الآن خمسون عاما. فالخطة الخمسية الشهيرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (60 ـ 1965) لم تكن فقط خطتنا الأولي ولكنها كانت أيضا خطتنا الأخيرة. ما أكثر ما وضع أو أعلن من خطط وبرامج منذ ذلك الحين، ولكن لم يؤخذ أي منها مأخذ الجد (بل ولا كان المقصود من معظمها أن تؤخذ مأخذ الجد).
ولكن هل يحتاج الإصلاح الاقتصادي دائما إلي خطة؟ من المؤكد أنه يحتاج إلي وجود رؤية خاصة إذا كان المطلوب إيجاد حلول لمشكلات متعددة، اقتصادية واجتماعية، يتفاعل كل منها مع الأخري، مما يتطلب نظرة شاملة للصورة بكاملها، وإدراك العلاقات المتبادلة بين أجزائها، وترتيبا للأولويات وبرنامجا للعمل. وأظن أن هذا هو المقصود «بالرؤية» المنشودة، وهذه يحتاج تنفيذها إلي خطة، وهذه الخطة تحتاج إلي تدخل من الدولة، بدرجة أو بأخري.
إن تجارب التنمية في التاريخ تدل علي صحة هذا الاعتقاد. فحتي تجربتى بريطانيا وفرنسا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر اللتين سبقتا كل تجارب التنمية الأخري في العصر الحديث، اعتمدنا علي تدخل سابق وصارم من جانب الدولة، قبل أن يطلق عقال النشاط الخاص والحافز الفردي. وكذلك كل التجارب التالية، كلما أرادت اللحاق ببريطانيا وفرنسا، اعتمدت علي درجة عالية من تدخل الدولة في الاقتصاد، علي الأقل بفرض أسوار عالية للحماية ضد منافسة السلع البريطانية والفرنسية. فقبل أن يطلق عقال الحافز الفردي، حدث هذا في ألمانيا والولايات المتحدة واليابان (وقبلها في تجربة محمد علي في مصر)، ثم تكرر في القرن العشرين في الاتحاد السوفيتي والصين، ثم في كوريا وماليزيا والهند.
ولكن كلما تأخرت الدولة في اللحاق بغيرها (أي في تحقيق الإصلاح والتقدم الاقتصادي)، كان التخطيط ووضوح الرؤية وتدخل الدولة ألزم وأوجب، إذ تصبح المشكلات أصعب وأكثر تشعبا، فضلا عن أن الحاجة إلي الخروج من المأزق تصبح بالضرورة أشد وأكثر إلحاحا.
فما الذي منع مصر من أن يكون لها هذه الرؤية المنشودة طوال الخمسين عاما الماضية؟
كانت الهزيمة العسكرية في 1967 سببا كافيا، لإنهاء تجربة جمال عبدالناصر في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي (بل ليس من المبالغة القول بأن هذه النتيجة كانت أحد الدوافع المهمة للهجوم الإسرائيلي في 1967 مدعوما من الولايات المتحدة). كانت هذه الهزيمة العسكرية عاملا كافيا لشل حركة الاقتصاد المصري لما يقرب من ثماني سنوات، فلماذا لم تسترد مصر حركتها وتتبني رؤية للتقدم الاقتصادي بعد ذلك، خاصة أنها أحرزت انتصارا عسكريا مهما في 1973 كان كفيلا بشحذ الهمة من جديد، وبدء عهد جديد من التقدم في مختلف المجالات؟
لدي كلمة واحدة لتفسير هذا الفشل طوال السبعينيات، أي طوال عهد السادات، وهي «التبعية». لقد قرر أنور السادات لأسباب لا حاجة للخوض فيها، أن يتبني سياسة الاعتماد الكامل علي الولايات المتحدة. وعندما قال إن 99% من أوراق اللعب هي في يد أمريكا، كان يعبر عن مشاعره الحقيقية، وعن الطابع العام لسياسته كلها. واستمر موقفه علي هذا النحو حتي مقتله في 1981. ولكن كيف تستقيم سياسة قائمة علي التبعية الكاملة لدولة عظمي (لها مطامعها وأهدافها الخاصة بها) مع تبني رؤية للتقدم والتنمية تستوحي آمال ومطامح دولة لم تحقق ثورتها الصناعية بعد؟
نعم، لقد شهدت سنوات السادات فترة من ارتفاع معدل نمو الناتج القومي، حدث نتيجة لظروف خارجية بحتة (الهجرة، إعادة فتح قناة السويس، تدفق المعونات وبعض الانتعاش في السياحة) ولكن هذا ليس هو المقصود بالنهضة الاقتصادية أو الإصلاح الاقتصادي فهذه النهضة وهذا الإصلاح لا يتحققان إلا بتنمية الصناعة والزراعة، كما أن هذا الذي حدث لم يكن ينطوي بالطبع علي أي رؤية لم يحتجه التقدم الشامل للأمة.
المؤسف أيضا أن هذه «التبعية» استمرت طوال الثلاثين عاما التالية التي حكم فيها حسني مبارك. لقد قال حسني مبارك مرة في إجابة عن سؤال يتعلق بالفارق بين سياسته وسياسة السادات أنه، أي مبارك «لا يؤمن بسياسة الصدمات الكهربائية». وقد كان بذلك يعبر بدوره عن الحقيقة (لأسباب لا حاجة أيضا للخوض فيها)، ولكن كان معني هذا القول في الواقع أن ما أدخله السادات علي مصر من سياسة التبعية (عن طريق الصدمة الكهربائية)، استمر حسني مبارك في اتباعه دون تغيير (ومن ثم دون حاجة إلي صدمة كهربائية أخري).
عندما قامت ثورة 25 يناير 2011، رفعت شعارات كثيرة منها: الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهي شعارات تصلح بالطبع كأهداف نهائية لرؤية شاملة للتنمية والتقدم والنهضة، ولكننا نعرف جيدا أن هذه الرؤية الشاملة لم يعبر عنها أحد حتي الآن رغم مرور أكثر من خمس سنوات علي رفع هذه الشعارات.
مرة أخري نقول إن الرؤية المنشودة لا تتحقق بمحاولة التنبؤ بما سيكون عليه معدل نمو الناتج القومي في سنة 2030 أو أي سنة أخري، 7% سنويا أو أي معدل آخر. فكما سبق أن ذكرت، يمكن أن يتحقق هذا المعدل المرتفع دون أن ينطوي علي تقدم اقتصادي أو نهضة، ومن الممكن أن يتحقق تقدم اقتصادي وتبدأ النهضة في ظل معدلات لنمو الناتج أقل من 70%. إن سيارة فقدت قوة الدفع الذاتي وارتبطت بسيارة أخري هي التي تحدد المسار وسرعة السير فيه، قد تسير بسرعة هائلة تنتهي بها إلي هاوية. إنما الرؤية المطلوبة هي بمنزلة استعادة السيارة لقوتها الذاتية، مع القدرة علي اختيار الطريق الذي تسير فيه والسرعة الملائمة، بمطلق الحرية.
إن هذا ينطوي، في حالة مصر الآن، علي اختيار الحلول الملائمة لمشكلات مثل قيام الحبشة ببناء سد النهضة، والمقارنة بين إنشاء عاصمة جديدة في مصر، إدارية أو غير إدارية، وبين الاتفاق علي تشغيل المصانع المتوقفة ومن ثم تخفيض معدل البطالة. ولا يمنع هذا أو ذاك من البدء في الوقت نفسه في إصلاح التعليم وتحسين أحوال المدرسين، وتوجيه وسائل الإعلام الجبارة (كالتليفزيون مثلا) في اتجاهات تسهم في حل بعض مشكلاتنا المهمة (كمحو الأمية مثلا) وفي أثناء ذلك تجري الاستجابة لبعض المشكلات المهمة الأخري التي تواجه كل مدينة ومحافظة علي حدة (كتنظيم جمع القمامة مثلا) وحل مشكلة المرور في المدن الكبري، والتصدي لحوادث الطرق، ومنع تلويث مياه النيل… إلخ
إن طول الفترة التي افتقدنا خلالها الرؤية المنشودة (وهي نحو خمسين عاما) جدير بتنبيهنا إلي أن إهمال حل بعض المشكلات هو الذي أدي إلي تفاقم غيرها، ومن ثم فهو جدير أيضا بأن يبعث فينا الأمل في أن البدء في حل بعض المشكلات سوف ينطوي،علي نحو تلقائي، علي بدء انقشاع القمة كلها.
د. جلال أمين
نقلا عن الأهرام