زيارة الدولة التي يقوم بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لمصر، تأتي في ظرف إقليمية ودولية بالغة الحساسية، وتحمل رسائل مهمة للبلدين وللعالم. يفرض الظرفان العالمي والإقليمي على مصر والسعودية مستوى من التنسيق والتعاون، ربما لم يكن متخيّلا من قبل الدولتين على أنه أحد خيارات المستقبل.. تعاون يعود بالنفع على الدولتين في الأمدين القريب والمتوسط، وقد يضع علاقاتهما في قالب جديد يمتد أثره إلى ما بعد المدى المتوسط. زيارة الملك سلمان تكتمل بالبناء عليها، وتطوير نتائجها بشكل مؤسسي على مستويات عدة تليق بالملك سلمان، وبالرئيس عبد الفتاح السيسي وببلدين كبيرين في إقليم مضطرب.
لكن يجب ألا يكون عندك شك في أن أي تقارب مصري سعودي، له أعداؤه الذين يتربصون به. وسيكون الإعلام أدلتهم الأولى في خلق صداع إعلامي للدولتين. صداع إعلامي أحيانًا قد تحتمله مصر، وقد يكون مزعجا في المملكة، ذلك لاختلاف النظامين وثقافتهما السياسية. مثل هذه الأضرار الإعلامية، يجب أن تواجه أولاً بأول دونما مواربة، ذلك لأن في مستقبل هذه العلاقة، مستقبل الاستقرار في المنطقة، ليس في إطار ملف أمن الخليج أو الصراع العربي – الإسرائيلي فقط، ولكن في مختلف القضايا الإقليمية مثل إيران والعراق وسوريا، أو القضايا العالمية التي تكون فيها مصر بثقلها الإعلامي والحضاري، وبعدها العربي والأفريقي، مكملة للمملكة ببعدها الإسلامي وثقلها الاقتصادي.
ما أرمي إليه هنا هو عملية المشاركة التي يفرضها الظرف التاريخي، وهي عملية على القائمين على هذه العلاقة في الدولتين أن يتحدثوا فيها بصراحة ووضوح، ذلك لأهميتها البالغة، التي يجب ألا تترك لتخمينات بعض الصحافيين، الذين لا يعرفون ما يدور في كواليس السياسة ودهاليز السلطة.
1 – مسألة القيادة الإقليمية «الذي لا يقر بدور مصر القيادي العربي، سواء في مصر أو في السعودية، لا يعرف مدى أهمية مصر عندنا، وإذا كان المتحدث مصريا، فهو إما مصري بالتجنيس أو لا يعرف تاريخ بلاده» هكذا قال لي كاتب سعودي «الذين يظنون أن دور مصر، يمكن أن يتضاءل من خلال دور سعودي في عملية السلام، قد يتخيلون أن مصر دولة صغيرة في الكاريبي، مصر هي دولة كبيرة، ولها تاريخ عريق لا ينقص من دورها أن يكون لدولة أخرى دور مشارك». قال مثقف سعودي ليبرالي، هذان الاقتباسان يمثلان رأي تيار سعودي في الدور المصري في المنطقة، هذا التيار يرى أن في قيادة مصر للعالم العربي، فائدة كبرى للمملكة وللعرب أجمعين، وعن قناعة تامة وموقف يدافعون عنه وبوضوح – هذا الجيل من المثقفين السعوديين وبعض النخب صرحاء وواضحون في حسم مستقبل المنطقة، ودور كل من مصر والسعودية فيها.
«لك أن تتخيل مثلا ماذا لو تحالفت مصر مع العراق في حرب الخليج عام 1990، لولا الموقف المصري لواجهت السعودية مشكلة كبيرة»، «ولك أن تتخيل أن الملك عبد الله بن عبد العزيز، لم يتخذ الموقف الذي اتخذه بعد ثورة 30 يونيو (حزيران)؟ وموقف الملك سلمان لا يختلف عن موقف الملك عبد الله تجاه مصر» قال سياسي سعودي. وجود هذه الأصوات على الساحة السعودية، أصوات داعمة لدور ريادي مصري ودور سعودي مشارك، لا ينفي وجود أقلية متشنجة في البلدين، وعلى الدولتين عدم الالتفات إلى إعلام يحاول تعلية مناطق الاختلاف على حساب مساحات الاتفاق بين الدولتين، وهي مساحات كبيرة وكثيرة. ولكن السؤال الجوهري هو كيف تدار العلاقة المصرية – السعودية بعيدًا عن تصويرها على أنها مباراة كرة قدم بين فريقين، ومتى تتحرر العلاقة وتبتعد عن الفهم السطحي، والمعلومات الواردة من عامل مصري في السعودية، أو سائح سعودي يزور مصر لأول مرة؟ للسائح مشكلاته كما أن للعامل مشكلاته، ولكنها في النهاية مشكلات صغيرة تخص أفرادًا، ولا ترقى إلى مستوى تعكير صفو الرؤية الاستراتيجية. لا بد من بلورة تصور يكون على مستوى التحدي الحالي، تصور للعلاقات يترفع عن استخدام صغير القضايا لإفساد أمور استراتيجية كبرى. وظني أن زيارة الملك سلمان الطويلة لمصر، رسمت ملامح التصور الاستراتيجي لعلاقة البلدين في المرحلة القادمة.
2 – الوضع الإقليمي ورمزية زيارة الدولة، التي قام بها الملك سلمان لمصر، لا يخفى على أحد من سوريا إلى اليمن إلى ليبيا، كلها أوضاع شديدة التعقيد، وتمثل تحديات كبرى بالنسبة للبلدين. ولا بد أن حوارا جادا قد حدث بين القيادة السياسية السعودية والمصرية، فيما يخص تلك الملفات الاستراتيجية الكبرى ولم يكن الموضوع كله عن الشق الاقتصادي للزيارة.
هناك أيضًا رسائل مصرية للقمة الإسلامية التي ستعقد في تركيا بعد أن ينهي خادم الحرمين زيارته لمصر، وليست بالضرورة رسائل لتركيا وحدها، بقدر ما هي رسائل للعالم الإسلامي، لا بد أن هذا تمت مناقشته بين الملك والرئيس. الملك سلمان يدرك محورية الدور المصري في أي ترتيبات إقليمية. ربما هناك دول كثيرة كانت تتمنى الزيارة المطولة للملك سلمان أن تكون لبلدها، ولكن الملك آثر أن يخص مصر بهذه الزيارة، وتلك رسالة واضحة للعالم.
ولا بد لنا كبلدين شقيقين أن ننضج إلى مستوى العلاقة المصرية – السعودية الجدية، وأن نتعامل مع القضايا بحكمة، ولسنا في مجال منافسة على الدور. فمثلا فيما يخص الترتيبات الإقليمية، هناك أمور تكون مصر أفضل أداء فيها، فيجب أن تترك لمصر، وهناك علاقات تكون السعودية فيها الأكثر تمرسًا، فيجب أن تترك للسعودية، هذا إذا ما كان وضع العلاقة في طبيعتها المثلى، ولكن من الطبيعي أن يكون هناك اختلافات لا خلافات في الرؤى.
3 – اختلافات مشروعة: فللدولتان رؤيتان مختلفتان فيما يخص سوريا مثلا، هذا الاختلاف هو اختلاف مشروع، ذلك لأن هناك محددات واضحة تحكم رؤى كل من الدولتين، وتختلف الرؤى بما يمكن تبريره باختلاف نظام الدولتين السياسي، وكذلك فرص التعاون ومناطق التهديد بالنسبة للدولتين.
هناك خلافات يكون يجب ألا ترقى إلى أن توضع في أولويات الدولتين، فالجميع يعرف أن عدد العاملين المصريين في المملكة، يصل إلى مليوني نسمة، وأن هناك نحو نصف مليون سعودي لهم إقامات وبيوت وعلاقات نسب مع مصر، فلا بد أن تحدث خلافات صغيرة على مستوى الأفراد، يستغلها الإعلام هنا أو هناك لتعكير صفو العلاقة. هذا النوع من الخلافات يجب أن يدار ولا يسيس. مثل هذه المشكلات أيضًا يجب ألا ترقى إلى مستوى الخلاف بين الدول، فهناك هوة واسعة ما بين صغار الأحداث والقضايا الكبرى.
وبما أنني مصري يكتب عن هذا الموضوع، فإنني ألوم القنوات المصرية المتعددة، التي لم تستطع أن تكسر حاجز التصورات النمطية السعودية عن مصر، فلا يعقل أن يكون آلاف من السعوديين تعلموا على أيدي مدرسين مصريين، ومع ذلك لم تكسر الصورة النمطية. بالطبع هناك إجابات جاهزة ولكن في معظمها تمثل تخليًا عن المسؤولية. الحقيقة المرة هي أن المدرس المصري، فشل في تقديم صورة لمجتمعه تكسر الرؤية النمطية التي يتلقاها المواطن السعودي من سائح عاد لتوه من القاهرة. كذلك هناك دور للإعلام المصري في كسر القوالب الذهنية الجاهزية، ليس في السعودية فقط، ولكن في كل دول الخليج عن صورة المصري فردًا ومجتمعًا. حتى هذه اللحظة فشل الإعلام المصري في تقديم بديل للصورة النمطية.
كما أنه يجب على المثقفين السعوديين أنفسهم أن يحاولوا مجابهة هذه التصورات الجاهزة وكسرها، إن كانوا جادين في حديث عن علاقة مصرية – سعودية استراتيجية، علاقة لا يكون طرفاها القيادات فقط، ولكن الشعوب أيضًا.
كذلك على المثقف المصري التخلي عن رؤيته الستينية للنخبة الثقافية في المملكة، فهناك نخبة مثقفة وواعية، معظمها تعلم في الغرب أكثر من مائة ألف منها تعلم في الولايات المتحدة، ولم يزر مصر ولا يعرف عنها الكثير، فلا بدّ من التعرف على هؤلاء والتواصل معهم.
4 – النموذج الأميركي – البريطاني والعلاقات المصرية – السعودية كان واضحًا بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) ومن الحملة الإعلامية الأميركية، أن الغرب لا يفرق بين الدولتين ويضعهما في سلة واحدة، إذن لماذا لا تكون استجابتهما للتحدي بمثل ما يراهما الآخر؟ يرى الأميركيون والأوروبيون في التعاون المصري – السعودي، قوة يمكنها أن تنهي صراع الشرق الأوسط في أحسن حالاته، ولكنهم يرون في اختلاف الدولتين ضعفًا وتهديدًا للاستقرار الإقليمي، وما تلك برؤية الأميركيين وحدهم، ولكنها حقائق التاريخ أيضًا، ففي حالات التقارب المصري – السعودي رأينا منطقة أكثر استقرارًا، وفي حالات الخلاف بينهما في الستينات رأينا منطقة مشتعلة.
العلاقة المصرية – السعودية يجب أن تتخذ من النموذج البريطاني – الأميركي في العلاقات الدولية نموذجًا.. علاقة بين دولتين مختلفتين من حيث النظام السياسي (مملكة – جمهورية) بين دولتين مختلفتين من حيث الموقع الجغرافي والثقل السكاني والدور، ورغم كل هذه الاختلافات ترى تكاملاً بين الدولتين بشكل يجعل علاقاتهما من أقوى العلاقات. بين مصر والسعودية عوامل تماسك وارتباط كثيرة، ولكن معظمها حتى هذه اللحظة عوامل محتملة (potential) ولم تفعل جميعها، هذا التفعيل يتطلب حوارًا صريحًا بين البلدين وكذلك يتطلب قالبًا جديدًا وإطارًا جديدًا لحوار استراتيجي، تشارك فيه النخب الحاكمة وكذلك الصفوة المثقفة. زيارة الملك سلمان لمصر ربما رسمت ملامح التكامل الدبلوماسي بين مصر والسعودية على أعلى المستويات، إذ أصبح التحالف المصري – السعودي اليوم حتمية تاريخية، وليس مجرد خيار رفاهية علاقات دولية في عالم لا ندري ماذا تخبئ لنا الأقدار فيه، من اضطرابات ونحن الآن نعيش في بعضها.
د. مأمون فندى
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط