تلعب اللغة دوراً أساسياً في حياة البشر، فهي من أهم الوسائل التي يستخدمها الفرد للاتصال والتواصل مع غيره، ومشاركتهم خبراته. وقد تكون اللغة والخطابات الحماسية أحد أهم مسببات الحروب بين الشعوب والديانات، إلا أن اللغة أيضاً هي الأداة الوحيدة لتحقيق السلام بين الشعوب؛ حيث تُيَسِّرُ لنا سبل فهم الآخر، وتغيير الصور النمطية السلبية تجاهه، مما يخلق أجواء التفاهم، ومن ثَمَّ التعايش السلمي بين البشر.
وارتباطاً بهذا الموضوع، فقد طالعتنا مؤخراً الصحف الإسرائيلية بمشروع قانون قدمه النائب “أورين حزان”، ممثل حزب الليكود اليميني، وأقره الكنيست الإسرائيلي. ويهدف هذا المشروع إلى إعادة تشكيل أثر اللغة في بلاد الشام التي تمزقها الصراعات، كما يهدف أيضاً إلى إلزامية تدريس اللغة العربية للطلاب الإسرائيليين، وبالمقابل إلزامية تدريس اللغة العبرية للطلاب العرب، اعتباراً من سن السادسة. ومن المفارقات الغريبة أن يقدم عضو الليكود اليميني هذا الاقتراح، ذلك لأنه الحزب الذي طالما عارض بشدة تدريس اللغة العربية في المدارس بحجة أنها تمثل خطراً، وتهديداً على كيان الدولة اليهودية، حيث هيأ أعضاء هذا الحزب في عام 2014 مشروع قانون تحت اسم “يهودية الدولة”، أو “قانون إسرائيل دولة القومية اليهودية”، يقضي بإلغاء مكانة اللغة العربية كإحدى اللغتين الرسميتين للدولة. ويرى النائب “حزان” أن ما دفعه لتقديم مشروع القانون الجديد هو تصاعد المواجهات العنيفة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي خلقت خوفاً مستمراً لدى المواطن الإسرائيلي الذي لم يعد يشعر بالارتياح عند سماع أحد الأشخاص يتحدث بالعربية في الأماكن العامة.
وقد تضاربت ردود الأفعال حول هذا المشروع الجديد الذي يُلزم طلاب المدارس الإسرائيلية بتعلم اللغة العربية، ما بين مساند، ومعارض. فمن جهة يرى المؤيدون أنه قانون سيساهم بدرجة كبيرة في زيادة التفاهم، والتعايش السلمي بين الإسرائيليين والعرب. حيث يعتبر الدكتور “محمد الدجاني”، مؤسس حركة الوسطية، أن مشروع هذا القانون “خطوة جريئة يرسل فيها الكنيست الإسرائيلي رسالة إيجابية للعالم”. كما يرى أيضاً “أن اللغة العربية هي لغة الإسلام التي يحتاج اليهود إلى أن يبنوا جسوراً من التفاهم والتواصل معها، وهي أيضاً لغة العرب التي يجب أن تسعى إسرائيل إلى السلام معهم، ولغة جيرانهم الفلسطينيين، التي تحتاج إسرائيل لأن تتصالح وتتعايش معهم”.
ويعتقد آخرون أن إدماج المعلمين العرب في المدارس اليهودية، وتدريبهم على كيفية تناول الموضوعات الحساسة، سيساعد الأطفال على اختبار أفكارهم، وتغيير الصورة النمطية السلبية لديهم. مستشهدين في ذلك ببعض قادة إسرائيل، مثل: “بن غوريون”، وغيره الذين تعلموا اللغة العربية، وتركوا بصمات كثيرة في خدمة بلادهم في كلا المجالين، العسكري والدبلوماسي. ويرى الدكتور “محمد إمارة”، أستاذ الأدب، ورئيس قسم اللغة الإنجليزية بالكلية الأكاديمية “بيت بيرل”، أن استخدام مناهج متعددة بما فيها اللغة العربية في إسرائيل هو أمر حيوي، وضروري سيساهم في تخفيف الانقسام، والاستقطاب القومي الذي تعاني منه دولة إسرائيل، والذي يهدد استقرارها.
وإذا كان هذا حال المؤيدين للمشروع، فإن المعارضين له يرون من جهة أخرى أن تشجيع الطلاب على تعلم اللغة العربية أمر جيد، لكنه من الخطاء أن يكون إلزامياً، إذ يصعب فرضه على الطلاب. ويرى “إيهود يعاري”، المراسل المخضرم في الشؤون العربية، أنه تم سابقاً تشكيل لجنة من ستة أفراد للبحث في مسألة تدريس اللغة العربية لطلاب المدارس، وخَلُصَتِ اللجنة إلى أن تعليم اللغة العربية ليس إلا مضيعة لوقت الطلبة الإسرائيليين، فهم يتعلمون اللغة العربية، ثم ينسونها بشكل سريع نظراً لأنهم لا يوظفونها في حياتهم العملية. ويُضيف “يعارى” أن قرار تدريس اللغة العربية سيتطلب من المؤسسة التعليمية أن تقوم بتأهيل ما لا يقل عن خمسة آلاف مدرس عربي على أعلى مستوى، وهذا أمر غير ممكن في الوقت الراهن نظراً لعدم توافر هذا العدد من المدرسين العرب.
وهناك من يرى أنه ليس هناك داع لتعلم هذه اللغة، مادام هؤلاء العرب لا يتقنون إلا لغة الكره والعدوانية، ولا مجال للتبادل الثقافي والإنساني معهم حتى يغيروا هذا الخطاب. وهناك فئة من المعارضين ذهبت إلى أكثر من ذلك، مؤكدة على أنه لا توجد ثقافة مشتركة بين الإسرائيليين والعرب، معتبرة أن الثقافة العربية تدعو إلى العنف، وترى أن القتل هو الطريق إلى الله. وقد استشهد ت هذه الفئة المتشددة في اعتراضها بمقولة مالكوم إكس الشهيرة: “فقط الأغبياء هم من يتركون عدوهم يعلّم أبناءهم”. فهم يعتقدون “أن أطفال العرب يتعلمون مهارات طعن الآخر، بينما يُطلَبُ من الإسرائيليين تعلم اللغة العربية “. وهناك أيضاً الآباء الإسرائيليون الذين يخشون مِن أن يتأثر أبنائهم ببعض الأفكار المتطرفة التي ربما يتبناها بعض المدرسين العرب القائمين على تدريس اللغة العربية في المدارس الإسرائيلية.
من السهل مجابهة تلك الأصوات التي تتحدث دوماً عن التنافر الثقافي الكامل بين العرب وإسرائيل، نظراً لأن هناك عدد كبير من الإسرائيليين ممن هاجر أجدادهم لإسرائيل من عدة دول عربية مجاورة لإسرائيل مثل مصر واليمن والعراق والمغرب، وكانوا يتحدثون اللغة العربية. وجدير بالذكر أن نستحضر ذلك التداخل الأدبي الذي حصل بين الكُتاب العرب واليهود في الماضي، حيث كان هناك أدباء يهود مثل: “سامي ميخائيل”، و”شمعون بلاص”، و”إبراهيم عوبديا”، و”إسحاق بار موشيه”، وغيرهم ممن كتبوا أعمالهم الأدبية باللغة العربية، كما كان هناك أيضاً كتاب عرب كتبوا أعمالهم باللغة العبرية، نذكر منهم: “أنطون”، و”شماس”، و”نعيم عرايدي”، و”سهام داوود”، و”فاروق مواسي”، و”سلمان مصالحة”. وهو تداخل ينم على أن اختلاف اللغات والألسنة يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في التقريب بين الشعوب عوضاً عن التفريق بينها. كما نستحضر تلك المبادرات الفريدة، والرائعة، التي تمت على أرض الواقع، منها مبادرة “يا سلام “، ومبادرة “هيا بنا نتحدث”، والتي جمعت بين الطلاب الإسرائيليين، والعرب في فصول واحدة لدراسة اللغة العربية، والثقافة، والمسرح، والموسيقى. وقد أثبتت تلك التجارب نجاحها في كسر الجمود الثقافي، والصور النمطية السلبية بين الطلاب الإسرائيليين، ونظرائهم العرب. ويرى أغلب هؤلاء الطلاب المشاركين في هذه البرامج أنها ساهمت بشكل كبير في زيادة التقارب الثقافي بين الجانبين، وفي تشكيل الآراء الإيجابية فيما بينهما بشكل أكبر.
ولعل العنف المتصاعد هذه الأيام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يحتم على الجانبين معاً البحث عن أرضية مشتركة تساهم في إرساء مبدأ التعايش السلمي، وقبول الآخر، وليست هناك طريقة أفضل من فهم لغة وثقافة الآخر لتحقيق هذه الغاية. بل ليس من المنطق إهمال لغة مليون ونصف المليون نسمة ممن يتحدثون العربية، ويمثلون 18 في المائة من سكان إسرائيل.
ومما لا شك فيه أن اللغة هي المفتاح لجميع الأعمال البشرية، وهي الوسيلة الوحيدة لفهم الأنشطة الاجتماعية، والاقتصادية للشعوب. ومن ثَمَّ فإن دراسة لغة الآخر قد تكون مدخلاً رئيساً لفهم الطريقة التي يفكر بها، ونوعية رؤيته للصراع والسلام. وهذا ما يجب أن تدركه المؤسسات التعليمية في إسرائيل فلا تعتبر تعليم اللغة العربية هدفاً لذاته، وإنما إجراءً يتوخى بالدرجة الأولى تعزيز السلام، والتعايش السلمي، والمساواة، واحترام حقوق الآخر، والتسامح، وتكافؤ الفرص. وبدون استحضار هذه الأهداف ستفقد عملية تدريس اللغة غايتها المتمثلة في دعم التقارب بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل، والضفة الغربية، وقطاع غزة.
وإذا كان دافع إسرائيل من تدريس اللغة العربية في الماضي نابعاً بالأساس من اعتبارات أمنية تهدف إلى التعرف على العدو، فإن الحاضر والمستقبل يحتم توسيع هذه الأهداف لتشمل جانب التلاقح الثقافي الفكري، الذي لن ينعكس إيجاباً على العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية فحسب، بل سيشمل المنطقة بأكملها بما فيها الدول العربية المحيطة بإسرائيل، وخاصة تلك التي تجمعها بها علاقات دبلوماسية واقتصادية. فإتقان اللغة العربية سيساهم بشكل كبير في توطيد العلاقات، وتسريع وتيرة عملية التطبيع مع دول الجوار، وحتى وإن لم يساهم تدريس اللغة العربية في تحقيق السلام بين العرب، وإسرائيل في الوقت الحاضر؛ فعلى الأقل سيساهم في تحقيق التفاهم الذي هو الأساس لأي عملية سلام في المستقبل.
محمد عبدالعزيز
منتدى فكرة