في 22 آذار/مارس، أعلن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي أن “الأمريكيين لم يفوا بوعودهم وقد رفعوا العقوبات عن الورق فقط”، مردداً بذلك شكاوى مسؤولين إيرانيين آخرين. وعلى الرغم من أنهم محقين بشأن الصعوبات المستمرة التي تواجهها إيران فيما يتعلق بوصولها إلى النظام المالي الدولي، إلا أنهم أخطأوا في تشخيص السبب. فالمشكلة الفعلية هي أن المصارف الإيرانية لا تواكب الأنظمة المصرفية الدولية التي وُضعت خلال العقدين الماضيين.
التخلف عن مواكبة التطورات
تبدأ المعايير المتغيرة التي تخلفت المصارف الإيرانية عن تطبيقها بالقواعد الصارمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب المعتمدة في كافة أنحاء العالم، والتي تتضمن أيضاً أنظمةً أصبحت أكثر تشدداً إثر الأزمة المالية العالمية عامي 2007 و2008، لا سيما معايير اتفاقية “بازل 3” التي تشمل إدارة المخاطر وحوكمة الشركات وقوانين الإفلاس ومتطلبات أخرى مرتبطة بسلامة المصارف. ففي مقالة نشرتها صحيفة “فايننشل تايمز” في 20 كانون الثاني/يناير، نُقل عن حاكم “البنك المركزي الإيراني” (“بنك مركزي إيران”) ولي الله سيف قوله إن نظام الدولة الإيرانية “قديم الطراز” وأنه لا بد لمصارفه من أن تمتثل لمتطلبات “بازل 3”. واقتبست المقالة ذاتها قول مرتضى بينا، مدير مخاطر رفيع الشأن في “مصرف الشرق الأوسط” المملوك للقطاع الخاص في إيران، ما يلي: “لو اتبعنا المعايير الدولية، لكانت أزمتنا المالية أقل وطأة بكثير علينا”. ومن جهته، أضاف الرئيس التنفيذي للمصرف، برويز أغيلي، قائلاً: “المصارف الأجنبية ليست ملزمة بالمخاطرة بسمعتها من خلال العمل مع المصارف الإيرانية التي تفتقر لدوائر امتثال فعالة”. وأشار مصرفي رفيع الشأن في طهران لم يكشف عن اسمه إلى ما يلي: “لقد تم عزل نظامنا المصرفي، على غرار اقتصادنا، بحيث لم يعد مدركاً لما يجري في العالم على مر العقود الأخيرة”.
وفي غضون ذلك، أصبحت المصارف الإيرانية خاضعة لإدارة متردية للغاية وشديدة التسييس إلى درجة أن دراسة أجرتها مؤخراً شركة الاستشارات “داريين أناليتكس” التي مقرها في لندن قد حذرت من خطر نشوء “أزمة مصرفية كبرى بعد ثلاث أو أربع سنوات”، مستشهدةً بـ “ضوابط إدارية وأنظمة تكنولوجيا معلومات غير متطورة وممارسات محاسبة وتدقيق غير منسجمة ومتساهلة في تحديد [القروض متعثرة السداد]”. وحذر وزير الشؤون الاقتصادية والمالية الإيراني علي طيب نيا بأنه يتوجب على الحكومة تسديد ديونها للمصارف بالرغم من الأزمة النقدية الناتجة عن انهيار أسعار النفط. ووفقاً لتقديرات “البنك المركزي الإيراني”، تدين الحكومة للمصارف بـ 33 مليار دولار، إلا أن طيب نيا لمّح إلى أن المبلغ أكبر بكثير. وأشار تقرير “صندوق النقد الدولي” الصادر في كانون الأول/ديسمبر 2015 بشأن الاقتصاد الإيراني إلى أن فريق الرئيس الإيراني حسن روحاني لم يستكمل بعد إعداد البيانات المتعلقة بهذه الديون بالرغم من مضي حوالى عامين على توليه السلطة.
وفي الواقع، يفتقر مجال الأعمال في إيران للشفافية في عدة جوانب. فالأنشطة المالية المضللة مترسخة بشدة في الممارسات المصرفية، مما يُعزى جزئياً إلى العقوبات المفروضة على إيران ويعكس في جزء آخر الفساد المستشري في الجمهورية الإسلامية. وخير مثال على ذلك حكم الإعدام الذي صدر مؤخراً بحق رجل الأعمال بابك زنجاني، على خلفية اتهامه بغسل الأموال والتزوير والاحتيال فيما كان يجمع ثروة قُدّرت بـ 14 مليار دولار، استغلها للتفاخر بنمط حياة مترف. وقد افادت وزارة النفط الإيرانية أن زنجاني يدين لها بمبلغ قدره 2.5 مليار دولار، في حين يدّعي هذا الأخير أنه عجز عن سداد هذا المبلغ نظراً لتجميد أمواله في المصارف الأجنبية بفعل العقوبات. وفي حالة مشابهة، فرّ محمود رضا خاوري، مدير عام مصرف “ملي” الإيراني الذي يعد أكبر البنوك التجارية الإيرانية، إلى كندا بعد اتهامه باختلاس أكثر من ملياري دولار؛ وفي عام 2014، أُلقي القبض عليه في إحدى دول الخليج وسُلّم لإيران.
وفي الشهر الماضي، أقرّ «مجلس الشورى الإسلامي» الإيراني قانوناً جديداً لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حظي بموافقة «مجلس صيانة الدستور»، الأمر الذي يُعدّ خطوة متواضعة إلى الأمام. ولكن، حتى لو ذهبت إيران أبعد من ذلك لإصدار تشريعات ترتقي إلى المعايير الدولية، يكمن التحدي الأساسي في تطبيق الأقوال وليس في مجرد بقائها حبراً على ورق. ففي 9 آذار/مارس، لفت نائب حاكم “البنك المركزي الإيراني” حميد طهرانفار إلى “ضرورة إعداد تنظيمات ومبادئ توجيهية لتطبيق القانون الجديد بالكامل”، مضيفاً: “طلبنا من «صندوق النقد الدولي» مراجعة تنظيماتنا لكي تشعر مصارف الدول الأخرى بالاطمئنان. وسيعلن «صندوق النقد الدولي» عن نتائج تقييمه عام 2018″، ما يفترض تأخيراً لمدة عامين.
السياسة الأمريكية وعودة إيران إلى نظام المصارف العالمي
يقيناً، أطلقت الحكومة الأمريكية تحذيرات عامة حول التعامل مع المصارف الإيرانية. ففي الأسبوع الماضي، شدد نائب منسق سياسة العقوبات في وزارة الخارجية الأمريكية كريس باكماير على أن الولايات المتحدة لا تمنع إيران من الوصول إلى الخدمات المصرفية العادية، لكنّه أشار في الوقت نفسه إلى أن المصارف ستتعرض لعقوبات صارمة ما لم تحرص على عدم التعامل مع هيئات خاضعة للعقوبات، مثل الشركات المرتبطة بـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، وهي مهمة غير سهلة نظراً لتاريخ «الحرس الثوري» الحافل بالعلاقات التجارية المقنّعة. يلي ذلك تحذيراً مماثلاً كان قد أدلى به في كانون الأول/ديسمبر 2015 القائم بأعمال وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشؤون مكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية آدم زوبين: “يجب على الشركات التي تدخل إيران أن تتوخى الحذر. وعليها أن تؤدي العناية الواجبة الضرورية للتأكد من أن نظيراتها الإيرانية غير تابعة لأفراد أو منظمات مدرجة على لائحة الإرهاب، على غرار… «الحرس الثوري» أو شبكة الشركات التابعة له”.
لكنّ التحذيرات الأمريكية ليست سوى عاملاً واحداً من بين عدة عوامل تقيّد المصارف. فالتحذيرات الصادرة عن هيئات دولية، مثل “فريق العمل المعني بالعمليات المالية“ تلعب دوراً أساسياً أيضاً. وفي الاجتماع الأخير الذي عقدته هذه المنظمة في شباط/فبراير، وافقت الحكومات السبع والثلاثين الأعضاء في المنظمة، بما فيها روسيا والصين، بالإجماع على تصريح يحذر من مخاطر القيام بأعمال تجارية مع إيران وكوريا الشمالية. وكما لفتت إحدى الفقرات: “لا يزال “فريق العمل المعني بالعمليات المالية” قلقاً إلى حد كبير وبشكل خاص من عدم تصدي إيران لخطر تمويل الإرهاب والتهديد الخطير الناجم عنه فيما يخص سلامة النظام المالي الدولي. ويعيد “فريق العمل المعني بالعمليات المالية” التأكيد على دعوة أعضائه ويحث كافة السلطات القضائية على إيعاز مؤسساتها المالية لإيلاء اهتمام خاص بالعلاقات والمعاملات التجارية مع إيران، بما فيها مع الشركات والمؤسسات المالية الإيرانية. وفضلاً عن تعزيز التدقيق، يعيد “فريق العمل المعني بالعمليات المالية” التأكيد على دعوة أعضائه الصادرة في 25 شباط/فبراير 2009 ويحث كافة السلطات القضائية على اتخاذ تدابير مضادة فعالة لحماية قطاعاتها المالية من غسل الأموال وتمويل المخاطر الإرهابية التي تنطلق من إيران”.
وقد جعلت العقوبات السابقة العديد من المصارف إلى توخي الحذر أيضاً من مدى المخاطرة مع دول مثل إيران. فبعد أن فُرضت عليها غرامات أمريكية تفوق 15 مليار دولار من جراء عدم إنفاذ العقوبات وأنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب على نحو ملائم، وعشرات مليارات الدولارات الإضافية بفعل الممارسات المضللة الأخرى، تبنت مصارف بارزة استراتيجية “تخفيف المخاطر” التي تقوم على ترك الأسواق حيث ترى أن خطر انتهاك القواعد، سواء عن قصد أو عن غير قصد، كبير جداً بالمقارنة بالعائدات المحدودة. كما أصبحت المصارف تولي أهمية أكبر بكثير لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وإنفاذ العقوبات. ووفقاً لبعض التقارير، ينفق مصرف “بنك أوف أمريكا” 15 مليار دولار سنوياً على قضايا الامتثال للقوانين، في حين ينفق مصرف “جي بي مورجان” 8 مليارات دولار على الأقل.
إذا أرادت واشنطن التصدي لشكاوى طهران بشأن عوائق الوصول المستمرة، لا بد من أن تعرض المساعدة على الإيرانيين بشكل علني لتحسين ممارساتهم فيما يتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وليس فقط بقوانينهم. ففي نهاية المطاف، إذا طبقت إيران بالفعل هذه الممارسات الجيدة، سيعزز ذلك مصالح الولايات المتحدة. وبالطبع، إن هذا السيناريو غير مرجح على الإطلاق، بيد أن واشنطن يمكنها بذلك على الأقل التفوق دبلوماسياً على إيران. فمن خلال رفض إيران لعروض المساعدة الأمريكية، ستثبت أن العوائق التي تواجهها هي من صنعها وليست ناتجة عن أي تلكؤ أمريكي.
لقد دارت الكثير من النقاشات حول ما إذا كانت إدارة الرئيس أوباما ستسمح بالوصول إلى الدولار الأمريكي في المعاملات المصرفية الأجنبية مع إيران. فبالرغم من أن هذه المعاملات كانت على الأرجح مرخصة في العهود الغامضة للرؤساء السابقين، إلا أنه لم يكن هناك أي مصرف بارز ليقدم على هذه الخطوة؛ لذلك، تمارس عدة جهات ضغوطاً على وزارة الخزانة الأمريكية من أجل توضيح القواعد. ولكن، حتى ولو مُنحت المصارف هذه الصلاحية الجديدة، من المستبعد جداً أن تمارسها على الفور لأنها ما زالت حذرة من التعامل مع العملاء والمصارف الإيرانية. وقد اشتكى نائب المدير التنفيذي لـ “صندوق ضمان الصادرات الإيراني”، سيد آرش شهر آييني، الأسبوع الماضي قائلاً: “إن المصارف الأجنبية الكبرى التي كانت ناشطة في مشاريع إيرانية قبل فرض العقوبات ما زالت مترددة في مباشرة الأعمال التجارية مع إيران”. (وسوف ينظر المرصد السياسي 2601 وبمزيد من التعمق في الولوج إلى الدولار وقضايا العقوبات).
ومن الجدير أن نتذكر أيضاً أن إيران لم تُعزل تماماً عن النظام المصرفي الدولي. فتمويل تجارة السلع على غرار المنتجات الزراعية والطبية لطالما كان متاحاً للشركات التي قاومت التدقيق. ففي بيان من عام 2014، أعلن مصرف “كي بي سي”، وهو الأكبر في بلجيكا، أنه “قرر دعم عملائه الراسخين في أسواقه المحلية… في تجارتهم الأصيلة مع إيران، مع مراعاة كافة عقوبات الاتحاد الأوروبي والعقوبات الأمريكية”، غير أن مصرف “كي بي سي” واجه على ما يبدو صعوبةً في إقناع المصارف الأخرى بالعمل معه على تمويل التجارة على هذا النحو.
وتتمثل المشكلة السياسية التي تواجهها واشنطن باحتمال تقبّل الكثيرين في إيران وحول العالم بالدعاية التي تقوم بها طهران لتوجيه اللوم إلى الولايات المتحدة على خلفية هذه العوائق المالية. ففي خطاب ألقاه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في “المعهد الملكي للشؤون الدولية” (تشاتام هاوس”) في 4 شباط/فبراير، شدد على أن “إعادة بناء ثقة المصارف بأن الولايات المتحدة لن تعاود التدخل في علاقاتها مع إيران قد تتطلب المزيد من الضمانات من جانب الولايات المتحدة”. إلا أن العكس صحيح تماماً: فما تحتاجه المصارف هو المزيد من الضمانات من قبل طهران بأن الإصلاحات آتية. ومن خلال عرض مساعدتها على إيران على تحديث تنظيماتها المصرفية وتدابير الإنفاذ المتبعة فيها، يمكن أن تُظهِر واشنطن من هي الجهة التي تقف فعلاً حجر عثرة أمام التقدم. وإذا ما قبلت طهران بهذه المساعدة، وهو أمر غير مرجح إلى حد بعيد، فقد يخدم ذلك المصالح الأمريكية عبر إعاقة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
باتريك كلاوسون
معهد واشنطن