ما كان لورنس العرب ليتفاجأ بصعود “داعش”

ما كان لورنس العرب ليتفاجأ بصعود “داعش”

لورنس-العرب

كان لورانس غاضباً دائماً من خيانة بريطانيا للعرب في اتفاقية سايكس-بيكو. وبعد قرن، ها نحن نشهد الحدود التي صنعتها تلك الاتفاقية وهي تتداعى.
*   *   *
لعله واحد من أفضل مشاهد السينما في التاريخ. ثمة الكولونيل ت. س. لورنس، بعيونه الزرقاء الحادة وجلبابه الأبيض الفضفاض، يجثم خلف كثيب رملي مع ثلة من جنود الجيش العربي البدو بالقرب منه. وعندما يقترب القطار، يضغط لورنس مقبض التفجير وينسفه في الرمال. ثم، في واحدة من تلك الحركات الكلاسيكية، “هيا، اتبعوني يا رجال”، يقفز لورنس من فوق الكثيب، مشيراً إلى جيشه العربي ليتبعه.
المقطع من فيلم ديفيد لين “لورنس العرب” الذي أنتج في العام 1962 والفائز بجائزة الأوسكار، من بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف. والنص مأخوذ من قصة لورنس التي كتبها بنفسه “أعمدة الحكمة السبعة”، والتي انتقدها البعض باعتبار أنه قصد منها إلى تحسين صورة الدور الذي لعبه في الثورة العربية. وفي حقيقة الأمر، ظهرت بعض الاقتراحات التي وصفت لورنس بأنه كان ببساطة مجرد خبير متفجرات معار، والذي اندمج في القوات العربية بصفة استشارية. لكن علماء الآثار من جامعة بريستول اكتشفوا مؤخراً رصاصة في الصحراء، من موقع كمين القطار في منطقة حالة عمار، ووجدوا أنها أُطلِقت من نفس نوع السلاح الذي كان يستخدمه لورنس. ويؤكد هذا الاكتشاف رؤية لورنس للأحداث، على ما يبدو.
لكن أعظم خدع لورنس لم تكن التي مارسها على قرائه، وإنما كانت خداعه لزملائه العرب. ولنمنح هذه الفكرة بعض السياق: الوقت هو العام 1917، حيث يقاتل لورنس والجيش العربي ضد الأتراك الذين انحازوا إلى جانب الألمان في الحرب العالمية الأولى. وكان لورنس، بدعم من الحكومة البريطانية، قد وعد العرب بمنحهم دولتهم الخاصة بهم بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. وهذا هو السبب في أن العرب كانوا يقاتلون إلى جانب البريطانيين. لكن ما لم يكن لورنس يعرفه –في البداية على الأقل- هو أن هناك صفقة سرية كانت قد أبرمت وراء في العام 1916 بين الفرنسيين والبريطانيين لتقسيم الشرق الأوسط بطريقة تتجاهل تماماً أماني السكان العرب الأصليين.
أخضعت اتفاقية سايكس-بيكو، التي رسمت خطوطاً طويلة قطرية مستقيمة عبر الصحراء، كلاً من سورية ولبنان للسيطرة الإدارية للفرنسيين. وأعطت فلسطين، والأردن، والخليج وبغداد للبريطانيين. وعندما تسربت أخبار هذه الاتفاقية ووصلت أسماع لورنس، ترتب عليه أن يناضل مع ما إذا كان سيخبر جيشه العربي بأنهم تعرضوا للخيانة من الدبلوماسيين البريطانيين وبأنهم لن ينالوا أبداً الدولة التي كانوا يضحون بأرواحهم من أجلها. وربما لم يعرف لورنس في أي وقت الحقيقة الكاملة عن صفقة سايكس-بيكو حتى نُشرت تفاصيلها في هذه الصحيفة في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1917. لكنه كان يعرف ما يكفي ليدرك أنه كان يضلل أصدقاءه العرب. وفي كتابه “أعمدة الحكمة السبعة”، كتب لورنس: “اضطررت للانضمام إلى المؤامرة ولتطمين الرجال بأنهم سينالون مكافأتهم. من الأفضل أن نفوز ولا نلتزم بكلمتنا من أن نخسر”.
بعد ذلك، رفض لورنس لقب الفارس والأوسمة الأخرى التي منحتها له حكومته احتجاجاً على الطريقة التي خُدع بها العرب على يد البريطانيين. بل إنه حاول ذات مرة أن يقتل نفسه. وكتب في ذلك الحين إلى رئيس محطته في القاهرة: “لقد قررت أن أذهب إلى دمشق، على أمل أن اُقتل على الطريق. إننا ندعوهم لكي يقاتلوا من أجلنا ونكذب، ولا أستطيع تحمل هذا”.
والآن، بعد مرور قرن على تلك الأحداث، ما تزال آثار خديعة سايكس-بيكو تعيش معنا. وفي الحقيقة، عندما أعلنت مجموعة “الدولة الإسلامية” إعادة تأسيس الخلافة، فإنها فعلت ذلك ببث شريط فيديو بعنوان “نهاية سايكس-بيكو”. ومن المثير للاهتمام أن الدولة التي أعلنتها المجموعة ليست على بعد مليون ميل من تلك الدولة التي كان لورنس قد وعد بها العرب.
في الوقت الراهن، نحن مسكونون بهاجس تدمير “داعش”، ولأسباب مفهومة. إنهم بلطجية ورجال عصابات وقتلة. لكن تلك الدوافع والقوى الكامنة التي تدفع نحو إقامة دولة سنية تمر عبر حدود سايكس-بيكو –بما فيها أجزاء كبيرة مما ما تزالان سورية والعراق- لن تختفي بغض النظر عمن يكونون في موضع المسؤولية، وعن الاسم الذي نطلقه عليهم.
نعم، هناك لدى “داعش” ما هو أكثر بكثير من مجرد الرغبة في نقض الآثار المستمرة منذ قرن كامل للاستعمارين البريطاني والفرنسي. لكن هذا النقض يظل هدفاً رئيسياً. وإذا انتهى المطاف بالعراق وقد انقسم إلى قطع كردية وشيعية وسنية، وإذا انتهى المطاف بسورية وقد انقسمت إلى قطاع علوي على طول الساحل وقطعة سنية أبعد إلى الشرق، فإن الحال قد ينتهي بـ”الدولة الإسلامية” وقد حصلت بالضبط على ما يزعمه اسمها، حتى بعد أن تتم هزيمتها. وسوف تكون هذه الحدود الجديدة قائمة على أساس العرق والدين وليس على أساس التصميم الإمبريالي الذي وُضع قبل 100 عام. وهذه المرة، لا أظن أن التدخل الغربي يمكن أن يوقف ذلك.

غايلز فريزر

صحيفة الغد الأردنية