في زمن يطغى العنف وجرائم الارهاب، وتنتشر لغة التخوين والتكفير، ويظهر كأن الحوار مقطوع بين اتباع مختلف الأديان والثقافات والاعراق، يبدو الجلوس الى طاولة تدعو الى إعادة إنتاج لغة الحوار والسلام وحق الجميع في الأمن والاستقرار، بمثابة نوع من التفكير خارج العصر وبمعزل عن أحداثه التي تضرب شاشاتنا يوماً بعد يوم.
مع ذلك، ينشرح الصدر أمام مبادرات من هذا النوع تسعى الى محاربة هذا الواقع بما أوتي لها من عمق أكاديمي وديبلوماسية سياسية ورحابة صدر، وتنوّع في الانتماءات يبتعد عن المألوف الذي اعتدنا عليه، حيث أصبح «الحوار» محصوراً فقط بأطراف اللون الواحد.
في مقدم هذه المبادرات الإيجابية كان المؤتمر الذي عقد في العاصمة التشيخية براغ هذا الأسبوع ونظمه المركز العالمي للحوار ومقره فيينا، والذي تمثل بأمينه العام فيصل بن معمر وعدد من المسؤولين في المركز، وبمشاركة منظمة التعاون الإسلامي ووزارة الخارجية التشيخية والأكاديمية التشيخية للعلوم، وتنوعت مواضيع النقاش وامتدت الى أهمية وضرورة الحوار بين الأديان والثقافات في مواجهة أعمال العنف والتهديدات التي يتعرض لها السلم العالمي والعلاقات بين الدول، اضافة الى الطرق الكفيلة بمواجهة موجات التطرف الفكري وتكفير الآخر، التي باتت تعصف بالمنطقة العربية وبالعالم الاسلامي، وتمتد الى الغرب على صورة الرعب من الإسلام الذي أصبح متعارفاً عليه بعبارة «اسلاموفوبيا»، وما صار ينتج من ذلك من اعتداءات تطاول معظم المسلمين المقيمين في الدول الغربية، حتى لو لم يكونوا ملاحقين أو متهمين بأي ذنب، بحيث صار انتماؤهم الديني وحده كافياً ليشكل عنصر اتهام أو ادانة.
تنوعت المواضيع التي عرضها المحاضرون من غربيين وأكاديميين وخبراء من دول عربية وإسلامية من بينها تركيا وماليزيا والمغرب ولبنان وأذربيجان، اضافة الى خبراء غربيين ورجال دين مسيحيين أوروبيين وعرب، وكانت لافتة مشاركة المطران عطالله حنا رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، الذي ألقى كلمته باللغة العربية، وتطرق فيها الى موضوع التهجير الذي يتعرض له المسيحيون في فلسطين وفي عدد من الدول العربية الأخرى، من بينها سورية والعراق ولبنان، وردّ على مقولة أن المسيحيين أقليات في بلدانهم، فأكد أنهم أصيلون في هذه البلدان، ومن حقهم على الجميع احترام انتمائهم الديني وحقوقهم السياسية. وتطرق حنا الى وضع المسيحيين في فلسطين مؤكداً علاقات الأخوة التي تربطهم بالمسلمين، حيث تعتبر اعتداءات اسرائيل على أي من أماكن العبادة او المقدسات الإسلامية او المسيحية اعتداء على الجميع، يواجهونه معاً كما لو كان اعتداء مباشراً على أي واحد منهم.
ومثل كلمة عطالله حنا كانت لافتة كذلك مشاركة الدكتور محمد السماك، الامين العام للجنة الحوار الإسلامي – المسيحي في لبنان، والتي تطرق فيها الى مصطلح جديد اطلق عليه اسم «christianophobia» ويعني الخوف الذي ينتشر بين التنظيمات الإرهابية وجماعات التطرف الديني من الدين المسيحي واتباعه، وما يستتبع ذلك من اعتداءات على المسيحيين وعلى أماكن عبادتهم. وأسهب السماك امام المشاركين في اقتباس آيات من القرآن الكريم تشير الى المكانة الخاصة التي يحظى بها الدين المسيحي والسيد المسيح، وأشار الى أن الجهل بهذه الحقائق الدينية والتفسير المشوّه لمقاصد الدين، هي التي تسيطر على عقول وسلوك التنظيمات الإرهابية التي أصبحت تشكل أكبر خطر على الإسلام نفسه قبل أن تكون خطرة على الآخرين.
ليس من المبالغة ان يوضع مؤتمر براغ تحت عنوان واحد هو: الحاجة الى الحوار. انه السبيل الى نشر العدالة والاستقرار والسلام، ومحاولة تجاوز الصراعات الدولية وتطوير مفهوم التسامح الديني والتعاون. وكما جاء في البيان الختامي فمن غير المقبول ارتكاب أعمال العنف باسم الدين، كما ان هناك حاجة الى تفكيك السلوك المتطرف لمصلحة نهج اصلاحي يحترم الآخر، ومن الضروري أن لا يكون لخطاب العنف والتحريض والظلم مكان في العالم المتحضر.
ومثلما قال الأمين العام للمركز العالمي للحوار في مداخلته أمام المؤتمر، فقد أصبح الدين ذريعة لرسم خطوط النزاعات والخلافات بين الشعوب مستغلة التغييرات في الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويتم استغلال هذه الظروف لتصوير الدين في شكل سيّئ بهدف الوصول الى السلطة والنفوذ. ومن هنا الحاجة الى قيام جسور الحوار لمنع تطور هذه الخلافات الى صراعات بين الشعوب والدول.
دعوة الى الحوار في براغ، داخل قاعات مغلقة وفي أجواء مسالمة. وبالطبع لم يتمثل الإرهابيون ولا أصحاب الأفكار المتطرفة في هذا الحوار، فهم يكرهون في الأصل مبدأ الحوار نفسه. وهو ما يستدعي السؤال الذي طرحتُه على أكثر من مشارك: كيف السبيل الى إيصال صوت هؤلاء الزملاء والأصدقاء المقتنعين بالحوار الى اولئك الذين يقيمون في الخارج وراء حواجز التطرف والعنف؟