“داعش” واستراتيجية الأرض المحروقة

“داعش” واستراتيجية الأرض المحروقة

1407974808071751700

منذ اللحظة التي اندفع فيها مقاتلو مجموعة “الدولة الإسلامية” إلى داخل مدينة الموصل العراقية، ثم اندفاعهم بعد ذلك إلى عمق المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في صيف العام 2014، أصبح سكان الدبس ينظرون إلى غاباتهم الثمنية على أنها لعنة أكثر من كونها بركة.
هذه القرية الواقعة على التلال إلى جنوب شرق عاصمة كردستان العراق، إربيل، استخدمت الغابات ذات مرة كمنطقة للتنزه. والآن، يستخدم أصبح الجهاديون يستخدمون أشجارها الكثيفة منطلقاً لشن هجماتهم على البلدة. وخشي قادة قوات البشمرغة المحليون من لجوء خصومهم إلى تكرار التكتيكات نفسها التي استخدموها في أماكن أخرى؛ حيث يشعلون النار في الأشجار من أجل لف أهدافهم بالدخان، وعلى نحو يجعل الضربات الجوية عديمة الجدوى.
وكانت مخاوف المدافعين عن البلدة في محلها؛ حيث استخدم الجهاديون الغابة كسلاح في نهاية المطاف. لكن استراتيجيتهم كانت مختلفة عما توقعه قادة البشمرغة: فبدلاً من استخدام أوراق الأشجار الكثيفة لتغطية التقدم العسكري، استخدمها مقاتلو “داعش” كجزء من استراتيجية تقوم على مبدأ “الأرض المحروقة”، التي تهدف إلى جعل المنطقة غير صالحة للعيش بالنسبة لسكانها.
في يوم عاصف في بواكير كانون الثاني (يناير) 2015، اندفع قطيع من الخنازير البرية المذعورة إلى سوق الفواكه والخضار المركزي في البلدة -وجاءت في أعقابه بعد لحظات لاحقة تلك الرائحة المنبهة للأخشاب المحترقة. واندفع الجنود الأكراد إلى أراضي الغابة، مفتشين بين أشجار السنديان المتشابكة المحترقة عن مقاتلي العدو. وبعد استعادة جثتي رجلين -“من كشافة داعش”، كما سماهما مصدر أمني محلي- شكل المقاتلون سلاسل بشرية لنقل دلاء الماء من نهر الزاب السفلي المجاور.
لكن الأوان كان قد فات. كان اللهب الذي تم إشعاله باستخدام سائل خفيف في سبعة أماكن مختلفة، قد تغذى على بالات التبن المخزنة وصفوف من خلايا النحل قبل أن ينفجر متحولاً إلى حريق هائل. واحترق العشب سريعاً، آخذاً معه قطعان الماشية التي ترعى هناك والحظائر المليئة بالآلات الزراعية الثمينة. وعندما تم الدفع أخيراً بقوات إضافية من الجنود من خط الجبهة المجاور لدعم رجال الإطفاء، كان ثاني أكبر جزء من غابة الأرض المنخفضة العراقية قد تحول مسبقاً إلى آخر ضحايا “داعش”.
كانت ثلاثة عشر عاماً من الأعمال العدائية شبه المتواصلة في العراق قاسية على البيئة وغير رفيقة بها على الإطلاق. وعلقت محافظات نينوى وكركوك الزراعية إلى حد كبير، والواقعة على تخوم “المثلث السني” العراقي، في الفوضى التي أعقبت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العام 2003. وفي وقت مبكر هو عقد الثمانينيات في القرن الماضي، عندما أرغم صدام حسين عمال الزراعة على الالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية لمحاربة إيران، لم يعد لدى ملاك الأراضي في تلك المناطق خيار سوى التكيف مع تقلبات الحرب.
ثم عملت الجولة الأخيرة من الصراع المتجدد على إغراق المزارعين الذين ما يزالون يعانون من مشاكل الماضي أعمق في البؤس -وربما تكون قد دقت ناقوس وفاة الزراعة في أجزاء واسعة من البلد.
الآن، أصبح ما لا يقل عن مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة غير قابل للاستعمال، بينما تقوم مجموعة “الدولة الإسلامية” بإلقاء بكميات هائلة من القمامة في مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية العراقية. كما تسبب النهب المنهجي في تجريد المزارعين العراقيين من الكثير من المعدات الضرورية لتجديد العمليات الزراعية. وفي تطور غير مسبوق، شاهد بعض العراقيين أراضيهم وهي تتعرض للتدمير المتعمد على يد أعدائهم المنسحبين، من دون أن يخدم ذلك غاية عسكرية واضحة.
يقول فهد حمد عمر، الشيخ الأيزيدي الذي اضطر إلى الفرار من مزرعته على سفح جبل سنجار إلى مخيم للاجئين على قمة الجبل عندما نفذ “داعش” حملة الإبادة العرقية ضد جماعته الدينية والعرقية القديمة في آب (أغسطس) 2014: “مع عيشنا الطويل في هذه المنطقة، كنا قد شهدنا الفوضى في الماضي. لكننا لم نشهد الناس أبداً من قبل وهم يحرقون حقولنا عمداً. ولم يحاول أحد أبداً تدمير سبل عيشنا تماماً. لم يسبق وأن واجهنا مثل هؤلاء الحيوانات”.
ما الذي فُقد؟
أصيب مسؤولو الزراعة العراقيون بهزة شديدة بسبب ما حدث، ولم يتمكنوا بعد من تقدير المدى الكامل للأضرار، فيما يعود في جزء منه إلى أن الكثير من أفضل أراضي البلد ما تزال في في قبضة “الدولة الإسلامية”.
ويقول مهدي مبارك، رئيس مديرية الزراعة في كركوك، وهو يلوح بيده غاضباً عندما قابلناه في مكاتب مديريته المحصنة بكثافة وسط المدينة: “هناك 250.000 فدان من المزارع هنا، وما يزال داعش يسيطر على 40.000 منها”.
ولكن، وحتى من دون توفر إحصائيات شاملة، يبدو حجم الدمار في المناطق التي تم تحريرها من “الدولة الإسلامية” في الفترة الأخيرة واضحاً تماماً.
كل المساحة البالغة نحو 450.00 فدان من الأراضي الزراعية في منطقة شِمال التابعة لمحافظة نينوى، وذات الأغلبية الأيزيدية الواقعة تماماً إلى الشمال من جبل سنجار وبجوار الحدود السورية، بقيت بوراً بلا فلاحة منذ خضوعها لاحتلال الجهاديين الذي استمر خمسة أشهر، وانتهى في أواخر العام 2014. وفي هذه المنطقة، قام الجهاديون بتدمير جميع البيوت البلاستيكية والدفيئات البالغ عددها 145، وقاموا بشحن مولداتها ومحولاتها كافة إلى مدن الموصل والرقة، وفقاً لرئيس بلدية المدينة. وكان الأكثر تدميراً من كل شيء آخر بالنسبة لمنطقة مشهورة بإنتاجها للقمح والشعير، هو أن الجهاديين إما كسروا أو سرقوا أو فككوا قطع كل واحدة من المضخات الموصولة بالآبار الارتوازية الـ485 التي يعتمد عليها السكان المحليون في ري أراضيهم.
كما أن مشكلة الألغام الأرضية كبيرة أيضاً في سنجار، حتى أن جعل المنطقة آمنة مرة أخرى قد يتطلب عقوداً، وفقاً لمنظمة غير حكومية طلبت عدم ذكر اسمها حتى لا تجلب الأنظار إلى وجودها. وفي الأثناء، هناك بالكاد صومعة أو مخزن بذور بقي سليماً في الأماكن التي احتلتها مجموعة “الدولة الإسلامية” في وقت ما من الحرب -حيث فضلت المجموعة الإرهابية استخدام الصوامع والمخازن كأبراج مراقبة خلال القتال.
في غرفة جلوسه في واحد من البيوت القليلة التي لم يدمرها القتال في شِمال من أجل استعادة البلدة، يناضل المزارع علي عابدين مراد، 46 عاماً، للحفاظ على رباطة جأشه نفسه عندما طلب إليه وصف ما فقده. فقد جرَّد مقاتلو “الدولة الإسلامية” شبكة الريِّ تحت الأرض في مزرعته من أجل صناعة القنابل من الأنابيب. وقاموا بتلويث بئره بالديزل، في عمل تخريبي لا يمكن إصلاحه، والذي جعل مياهه غير صالحة لري المحاصيل. كما أن الاكتشاف الأخير للعبوات الناسفة البدائية، التي كان المحتلون قد زرعوها في كل حقوله كجزء من خطوطهم الدفاعية، تجعله يخشى احتمال عدم التمكن من زراعتها مرة أخرى أبداً.
والآن، يترتب على أولاده الهزيلين الذين يبدو حجمهم أصغر من اللازم أن يتجهزوا لبضعة أشهر أخرى من التقشف والحصص الغذائية الشحيحة. ويقول مراد: “يبدو الأمر كما لو أنهم أرادوا أن يحاكموا ويقتلوا كل واحد منا نحن الأيزيديين، وإذا لم ينجحوا في ذلك، أن يجعلوا الحياة تعيسة بالنسبة لأي واحد منا ينجو ويبقى على قيد الحياة”.
بدا حجم الدمار في البداية مرتبطاً بهوية الناس الذين يستولي مقاتلو “الدولة الإسلامية” على أرضهم. فبالنسبة لبعض العرب السنة من الحميراء ومنطقة محافظة كركوك، كشفت لقاءاتهم الأولى مع الحكام الجدد عن بعض الوعد. وقال أحد المزارعين النازحين، والذي طلب عدم ذكر اسمه، إن إداريي “داعش” منحوا في البداية لأصحاب الحيازات الصغيرة من الأراضي حصصاً أكبر من الوقود لنقل بضائعهم إلى السوق. وأضاف: “يبدو أن دول الخلافة كانت تريد أن يزرع الناس المحاصيل”.
ومع ذلك، عندما أعاد الأكراد والجيش العراقي تجميع صفوفهم وازدادت حدة القتال، شعر هؤلاء المزارعون العرب السنيون هم أيضاً بقوة التدمير الوحشي لـ”الدولة الإسلامية”. فقد تم قطع خطوط الكهرباء عن مباني المزارع التي تم تفخيخها بالمتفجرات عندما انسحب المقاتلون. وأدى الكثير من هذه المتفجرات لاحقاً إلى إصابة وتشويه اللاجئين الذين كانوا يسعون إلى طلب الملجأ بينما يهربون من مناطقهم التي ما تزال في قبضة “داعش”.
وبسبب الخوف من الكمائن، والحرص على إزالة العقبات التي تعيق رؤية نقاط التفتيش، قام الجهاديون بتسوية العديد من البساتين بالأرض، بما فيها تلك التي كانت تنتج ذات مرة شراب الرمان الشهير الذي يقدِّره العراقيون في كامل أنحاء البلد.
ويقول رشيد محمد السويدي، وهو مزارع تحول بيته في قرية دريس خازان على الطريق الذي يربط بين مدينتي كركوك والحويجة إلى ركام في القتال: “نعتقد أنهم كانوا غاضبين لأننا لم نكن ندعمهم، ولذلك قرروا أن يجعلوا حياتنا صعبة قدر الإمكان”.
الكفاح الطويل من إجل إعادة البناء
في هذه المساحات المسطحة الخصبة البعيدة إلى الشمال من بغداد، يشرع السكان المحليون المصدومون بالاستيقاظ على التداعيات الأوسع نطاقاً لعمل “الدولة الإسلامية” الهدام والتدميري.
حلقت أسعار الخضار والفواكه في غياب المنتجات المحلية؛ حيث ارتفع سعر الكيلوغرام الواحد من البصل الذي كان يدور ذات مرة حول 25 سنتاً إلى نحو 90 سنتاً في سوق قرية الدبس. وتضاعف سعر التفاح من 60 سنتاً للكيلوغرام إلى نحو 1.35 دولاراً، بينما تملأ البضائع المستوردة من أوروبا الشرقية والدول المجاورة الفجوات في السوق.
وحتى اللحوم أصبحت أكثر غلاءً أيضاً؛ حيث تثقل فوضى الحرب كاهل الموزعين بمزيد من التكاليف الإضافية. وفي سوق مواش غير مرخص على حافة الطريق السريع إلى الغرب من كركوك، يشتكي التجار من أن الرشاوى التي يطلبها رجال الميليشيات الشيعية ورجال البشمرغة الكردية عند نقاط التفتيش دفعت سعر الشاة إلى الارتفاع من 150.000 دينار عراقي إلى 200.000 دينار عراقي في الشهر الماضي وحده.
والآن، بات على العراقيين العاديين الذين يعانون مُسبقاً من فقدان الدخل، أن يتعاملوا مع فواتير الغذاء التي لا يستطيع الكثيرون منهم تحملها. ويقول عباس عمر، الذي توقف عمله في بيع أنظمة الري تركية الصنع في الدبس وتضرر إلى حد كبير، في ظل إحجام السكان المحليين عن الإنفاق: “إنك لا تستطيع أن تتخيل مدى الإهانة التي ينطوي عليها عدم معرفتك ما إذا كنت تستطيع أن تطعم عائلتك كل شهر”.
وبالنسبة للحكومة العراقية أيضاً، ما كان فقدان الكثير من زراعتها المحلية ودمار الاقتصاد الريفي في شمال البلاد ليأتيا في وقت أسوأ. فقد أفضى انهيار أسعار النفط إلى تخفيض الإيرادات وقاد إلى عجز في الموازنة لا يقل عن 20 مليار دولار. ومع مقدار أقل من القمح والشعير اللذين يأتيان من أراضيها الزراعية الرئيسية، أصبحت الدولة العراقية أقل أمناً من الناحية الغذائية، وأكثر اعتماداً على المستوردات التركية والسعودية والإيرانية.
ويقول مبارك، مسؤول الزراعة في كركوك: “كانت هذه سلة غذاء العراق، لكننا لم نعد ننتج الآن أي شيء”. وقبل قدوم “الدولة الإسلامية”، كانت محافظته تنتج 450.000 طن متري من القمح، و250.000 طن من الشعير، و100.000 طن من القطن. وبعد أن دمرتها الحرب وعدم رغبة المزارعين في الاستثمار، أصبحت هذه المنطقة تنتج الآن أقل من ربع هذه الكميات.
وماذا بعد؟
حتى في أوقات أفضل من هذه، كانت الحكومة ستعاني من أجل دفع فاتورة الضرر الذي لحق بالسلع الزراعية. والآن، بعد أن لم تعد خزائن بغداد تفيض بأموال النفط، ومع تخفيض ميزانية وزارة الزراعة بشكل كبير، ثمة القليل من التفاؤل بإمكانية استعادة أراضي البلد الزراعية المدمرة في أي وقت قريب.
يقول سايدو قاسم، محافظ بلدة شِمال، إن إصلاح الضرر الذي لحق بهذه المنطقة الفرعية سيحتاج إلى 70 مليون دولار. ويضيف: “كل شيء، من المضخات إلى الجرارات الزراعية إلى البذور، سوف يحتاج إلى استبدال”.
وباستثناء دفعة أولى بمقدار 45.000 دولار جاءت من الحكومة المركزية في بغداد من أجل إزالة الأنقاض من الشوارع وتمديد سلسلة من خطوط إمداد الكهرباء الجديدة، يقول إنهم لم يتلقوا أي إعانات على الإطلاق.
في هذه الأثناء، من المرجح أن يستمر عدد كبير من المزارعين الذين نزحوا من مختلف أنحاء البلد في البقاء في المنفى. وهم يقولون إنه لا فائدة من العودة حتى تصبح أراضيهم قابلة للفلاحة مرة أخرى، حتى ولو أن “داعش” أصبح الآن في تراجع.
ويقول عبد العزيز محمد، المزارع من عشيرة شمَّر، إن ممتلكاته قرب ربيعة، بين دهوك وسنجار، ستظل غير قابلة للاستخدام حتى تفتح السلطات الكردية قناة ري كانت قد أغلقتها بداية لحرمان “الدولة الإسلامية” من المياه: “إننا مزارعون، ومزارعون فقط. إننا لا نعرف كيف نفعل أي شيء آخر”.
البعض يرون في هذه الفوضى فرصة متخفية لإصلاح القطاع الزراعي في البلاد، الذي كان يتلقى دعماً مفرطاً من الحكومة، وظل مثقلاً بالمشكلات على مدى عقود. وكانت الحكومة تشتري القمح تقليدياً بما يصل إلى ثلاثة أضعاف سعره في السوق، وبطريقة جردة هذه الصناعة من التنافسية. كما أن ارتفاع درجات الحرارة الذي يحيله الكثيرون إلى التغير المناخي، بالإضافة إلى نقص المياه في مناطق الجنوب القاحلة، دفعا العديد من المزارعين إلى هجر أراضيهم منذ فترة طويلة.
يقول مبارك: “ليست لدينا سياسة زراعية متساوقة. نحن لا نتلقى الدعم من وزارات النفط والموارد المائية والتجارة. ويجب أن يكون هذا درساً للعراق”.
لكن الغيث لا يبدو قادماً بما ينبغي من السرعة بالنسبة لأولئك الذين يكافحون من أجل التكيف والاستمرار. ومن دون عودة سريعة إلى فلاحة أراضيهم، فإن البعض يشيرون إلى أن الزراعة ستموت في منطقة الهلال الخصيب، حيث كانت قد ولدت أول الأمر.
ويقول عمر، المزارع الأيزيدي من جبل سنجار: “كان أجدادنا هم الذين ابتكروا الزراعة. وسوف يكون عاراً كبيراً إذا ماتت الزراعة هنا”.

ترجمة:علاء الدين أبو زينة

صحيفة الغد