هل هي غيرة وطنية صعدت فجأة في رؤوس نواب تحولوا بين ليلة وضحاها من أصحاب ملفات فساد ضخمة، إلى دعاة إصلاح وتغيير أم أنها إفك ونفاق درج عليهما أعضاء برلمان المنطقة الخضراء؟
المسألة لا تحتاج إلى الكثير من العناء في تفسير حالة اعتصام عدد من النواب أكثرهم من حزب الدعوة والتيار الصدري وأقلهم من سنة نوري المالكي ورَبع إياد علاوي، فالمشكلة تتمحور في كيفية الخروج من المأزق الذي ضرب البيت الشيعي المهيمن على المشهد السياسي منذ احتلال العراق في أبريل 2003 إلى يومنا الراهن، بعد أن وصلت العملية السياسية التي قادتها الأحزاب الشيعية وساهمت فيها الكتل الكردية والشلل السنية، إلى نفق مظلم وأثبتت سنوات الفساد المستشري في جميع مفاصل العراق، أن هذه الأحزاب وأغلب قادتها من مدعي التديّن والتقوى والعفة والنزاهة، لا تصلح لحكم بلد مثل العراق لم يشهد عبر تاريخه كوارث ونكبات ونكسات كما في الأعوام الـ(13) الأخيرة المليئة بالانتهاكات والسرقات، حتى يخيّل لمن يتابع ما جرى ويجري في هذا البلد وكأن حكام ما بعد مرحلة صدام مصرون على تدمير البقية الباقية من البنى التي شيّدها العراقيون بالدم والتضحيات عبر تاريخهم المعاصر، وتخريب القلة المتبقية من القيم الوطنية والقومية والإنسانية التي كانت سمة العراقيين على مر العصور والأزمان الماضية.
ومع الاعتراف بأن رئيس مجلس النواب سليم الجبوري (السني) ونائبيْه الشيعي همام حمودي، والكردي آرام شيخ محمد، يستحقون أكثر من الطرد من مناصبهم التي احتلوها بفضل المحاصصة الطائفية والعرقية، إلا أن الذين تعاضدوا على إقالتهم يستحقون هم أيضا تحطيم مقاعدهم النيابية وجمعهم مع الثلاثة خلف القضبان جزاء ما ارتكبوه من آثام طائفية وما اقترفوه من ذنوب ولصوصية، وإلا كيف يصبح مشعان الجبوري وأولاد عمومته قتيبة وأحمد وبدر الفحل الجبوريين، وتابعهم شعلان الكريم، أصحاب صوت عال في الإصلاح وعلى كل واحد منهم أضابير نهب منظم ودعاوى في القضاء وسجلات الشرطة، شطبها نوري المالكي بجرة من قلمه الذي يقطر حنانا على أتباعه وسمّا على خصومه؟
وكيف نصدق أن يتحول عتاة الطائفية حسن السنيد وعدنان الأسدي وخلف عبدالصمد وحنان الفتلاوي، والأخيرة صاحبة نظرية (7 في 7) الشهيرة، إلى رواد أخوة وطنية، وينبذون شيعيتهم التي هي بضاعتهم الوحيدة في تعاملهم مع الآخرين؟
هل من المعقول أن يصبح حاكم الزاملي ورفاقه من بقايا جيش المهدي من المصلحين الذين يتحزمون بالفضيلة وينادون بالتغيير الوطني، وهم أكثر المنتفعين من العقود والصفقات المريبة وأضحوا أباطرة في جمع المال وشراء القصور، وكان أكبر رأس فيهم يبيع بطاقات الهاتف النقال في زاوية لندنية قبل الاحتلال؟ كيف نهضم صيحات إياد علاوي إلى المصالحة الوطنية وهو الذي لا يشتغل إلا وفق (البزنس) وإنشاء الشركات والبنوك والإلحاح على تأسيس مركز للسياسات الاستراتيجية له توازي سلطاته المالية صلاحيات رئيس الوزراء؟
إن النواب المعتصمين ونظرائهم المخالفين لهم من طينة واحدة وإن اختلفوا في طروحاتهم، وكلا الطرفين نتاج مرحلة سوداء ضاع فيها العراق وانقسم إلى مكونات، وقد تضامنوا جميعا بشيعتهم وسنتهم وأكرادهم وتركمانهم وحتى الأقليات، على إيذاء شعب العراق وذبح أبنائه ودفعه إلى أسفل قوائم الدول الفاشلة رغم أنه يبيع قرابة أربعة ملايين برميل نفط يوميا تذهب إيراداتها إلى جيوب الحيتان والمافيات، سواء كانت شركات أجنبية أو أحزابا إسلامية أو كتلا سياسية.
ولعلها من المفارقات أن تتحد واشنطن وطهران في التباكي على الشرعية والتمسك بالدستور، وهما من ساهمتا في تدمير العراق، وكل منهما يكمل الثاني في تنفيذ أجندته، بعد أن صار لهما أتباع وأحزاب وجماعات ومرجعيات وعشائر ورؤساء ووزراء ونواب وقادة قوات وأجهزة، ولا تصدقوا هتافات “سحقا سحقا للأميركان” التي يرفعها الصدريون، و”تبا تبا لإيران” التي يتغنى بها أحمد المساري وظافر العاني، فإنها من لزوم الشغل والضحك على الذقون.
إن الخروج من الأزمات المتلاحقة التي يعيش تحت وطأتها العراق، يستدعي استقدام الأمم المتحدة كما فعلت دول وحكومات شارفت على حافة الهاوية واقتربت من الانهيار، لتتولى الوصاية على البلاد وتشرف على حكومة جديدة لا تشترك فيها أحزاب وكتل المحاصصات بكل أنواعها، ولا يشارك فيها من شغل منصبا أو وظيفة رفيعة طيلة السنوات السابقة، وتجميد العمل بالدستور، لتتولى هذه الحكومة الإنقاذية بالاعتماد على المجتمع الدولي وعساكره من ذوي القبعات الزرق والحمر والخضر، تنظيف البلاد من داعش والميليشيات وجيش اللصوص والمخربين، وتمنح العراقيين فرصة لالتقاط أنفاسهم وتوقف مسلسل الاختلاسات وتسترد المال العام من سارقيه وخصوصا أصحاب الجنسيات المزدوجة عبر الشرطة الجنائية، الإنتربول، التابعة للمنظمة الأممية.
نعرف مسبّقا أن أصواتا ستحتج على وصاية المنظمة الدولية، وستخرج تظاهرات المسيرين بفتاوى الفتنة استنكارا، وسينظم المنقادون للدجل سلسلة من الاعتصامات الصاخبة، وسيصطف المالكي والعبادي والجعفري والشهرستاني ومقتدى وآل الحكيم وسليم الجبوري والنجيفي والمطلك وإياد علاوي في جبهة متراصة حفاظا على مصالحهم وامتيازاتهم، وسيزعل أكراد فؤاد معصوم على إلغاء منصبه الرئاسي، ولكن يبقى هذا هو الحل الوحيد على علاته والأخطاء التي سترافقه، بعد خفوت أطراف المعارضة الوطنية وتلاشي الأمل فيها، وإلا فإن البلد ذاهب لا محالة إلى 18 ولاية هشة أو جمهورية موز رخوة على عدد محافظاته، وحتى نظام الأقاليم لم يعد مجديا بعد أن شاع ظلم الأحزاب وطغيان قادتها، وانتهى العدل محبوسا في محاكم مدحت المحمود.
هارون محمد
صحيفة العرب اللندنية