كان السفير دينيس روس أحد اللاعبين الرئيسيين الذين اعتمدت عليهم إدارات متعاقبة في رسم السياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، لكنه صعد إلى مرتبة أحد صانعي السياسة ومتخذي القرار الأهم منذ أن ساهم في يونيو 2008 في كتابة خطاب المرشح الرئاسي آنذاك باراك أوباما أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية (أيباك) الذي وصف بأنه “أكثر خطابات المرشحين توسعا حول السياسة الخارجية”.
ومنذ أن عينته المرشحة المحتملة للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون مستشارا خاصا لشؤون الخليج وجنوب شرق آسيا في وزارة الخارجية بعدما تولت للتو حقيبتها في فبراير عام 2009، لم يتردد روس في انتقاد الغزو الأميركي للعراق الذي كان في السابق أحد أكبر داعميه، إذ قاد عام 2003 لوبيا خاصا للدفع باتجاه حشد التأييد لإدارة الرئيس جورج بوش الابن، التي كانت تصر على المضي قدما في إتمام مغامرة خاسرة.
لكن بعد مرور عشرة شهور على الاتفاق النووي الذي وقعته الولايات المتحدة ودول غربية أخرى مع إيران لعرقلة ملفها النووي، لا يرى روس أن الولايات المتحدة تقترب شيئا فشيئا من إيران، ويصر على أنه “ليس صحيحا أن الولايات المتحدة تتبنى مقاربة عنيفة تجاه السعودية”.
الثمن الباهظ
كان روس يعلم، منذ انتقاله في يونيو 2009 للعمل في البيت الأبيض كمساعد خاص للرئيس باراك أوباما لشؤون المنطقة الوسطى (الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا)، ميل الإدارة الجديدة تجاه “العودة مجددا للحديث مع إيران”، وهو المبدأ الذي كان يشاركه فيه وزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو، رغم العداء الذي فرق بينهما بعدما تحول روس إلى “مناصر لإسرائيل أكثر من الإسرائيليين أنفسهم”، كما وصفه وزير الخارجية الفلسطيني الأسبق نبيل شعث.
يشعر روس، الذي أجريت معه حوارا مطولا عبر البريد الإلكتروني، بالريبة تجاه نوايا الإيرانيين في المنطقة ويعتقد أنه “حتى لو كانت الولايات المتحدة تسعى للتقارب مع الإيرانيين، فإن من الواضح أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي يقف في الجهة المعاكسة تماما لأي مصالحة مع واشنطن الآن. أعلن خامنئي من قبل أن المحادثات ممكنة فقط حول الملف النووي، وبالتعاون مع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن تمكنت الولايات المتحدة من التوصل إلى اتفاق يتم بموجبه تقييد طموحات إيران النووية”.
السؤال هو: هل ستوافق إيران على التوقف عن محاولاتها لأن تصبح زعيمة المنطقة؟
ولم يتنازل روس عن مبدأ العصا والجزرة الذي أعلن منذ عام 2006 أنه الاستراتيجية الأنسب للتعامل مع إيران.
يعتقد الدبلوماسي المخضرم، الذي عاد ليعمل مستشارا في معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، ان واشنطن تأخذ من طهران بيد ما أعطته لها باليد الأخرى، وأن هناك توجها عاما في الولايات المتحدة بالتريث كثيرا قبل إخراج إيران بحرارة من الركن البارد من العالم.
كتب لي بلغة مباشرة “تم رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران. تقوم الولايات المتحدة في الوقت الحالي بإعادة فرض هذه العقوبات ببطء تدريجي على الإيرانيين مستخدمة اتهامات أخرى تتعلق بحقوق الإنسان ودعم الإرهاب. دفع ذلك الإيرانيين إلى الشكوى والصراخ حول عدم قدرتهم على الحصول على ما وعدوا به خصوصا القدرة على أن يصبحوا جزءا من النظام المالي العالمي، ببساطة لأن البنوك الأميركية لا يمكنها العمل مع نظيرتها الإيرانية”.
وأضاف “ممكن أن يتعاون الجانبان في حالة واحدة فقط وهي أن تصبح إيران قادرة على إتمام صفقاتها واتفاقياتها الاقتصادية بالدولار، وأن ترفع الولايات المتحدة قيودها عن البنوك هناك. لا يبدو ذلك ممكنا الآن”.
سيكون ذلك ممكنا وفقا للكثيرين في الولايات المتحدة، بينهم روس، إذا رأت الإدارة الأميركية تغييرا حقيقيا ينعكس على سلوك إيران العدواني في المنطقة.
ولن تظهر ملامح هذا التغيير سوى “بتطبيق الولايات المتحدة المنطق نفسه الذي استخدمته لجلب الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات بشأن القضية النووية على النحو التالي: جعل الإيرانيين يدفعون ثمنا باهظا لسلوكياتهم السيئة حتى في الوقت الذي تمنح فيه لهم مخرجا، فالطريق الذي لا تمارس فيه إيران الإرهاب، ولا تستخدم الميليشيات الشيعية لتخريب جيرانها وإرغامهم على القيام بما تريده طهران، ولا ترفض السلام العربي الإسرائيلي ولا تطالب بالهيمنة الإقليمية، هو المخرج الذي يمكن أن تحقق فيه إيران نجاحا اقتصاديا، وتكتسب احتراما وتقديرا وتلعب دورا في الهيكل الأمني للمنطقة”. ولكي يحدث ذلك، يجب أن يكون ثمن ما يقوم به “الحرس الثوري” في المنطقة واضحا.
يقول روس “لن يتم تمكين الواقعيين والإصلاحيين، وربما لن يتم الحفاظ على الاتفاق النووي، إذا كان بإمكان فيلق القدس بقيادة قاسم سليماني توسيع النفوذ الإيراني ضد حلفائنا وعدم دفعه أي ثمن إزاء قيامه بذلك”.
العراق المهدد دائما
منذ دخول رفع العقوبات حيز التنفيذ في يناير الماضي، زاد حجم التدخل الإيراني في العراق المجاور الذي يقبع تحت إدارة حكومة مدعومة مباشرة من طهران.
وتنخرط الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي، أحد قيادات حزب الدعوة الإسلامي، في حرب شرسة مع تنظيم داعش الذي تمكن منذ منتصف عام 2014 من السيطرة على مساحات شاسعة في شمال البلاد، واتخذ من مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، عاصمة له.
وتسيطر على الولايات المتحدة قناعة بأن الحكومة الشيعية السابقة بقيادة نوري المالكي لعبت دورا هاما في ظهور داعش، “لكن في جميع الأحوال لا يمكن استعادة الماضي مرة أخرى”.
وتخشى واشنطن من أن يؤدي سحب دعمها لحكومة العبادي إلى انهيار قدرتها على قتال داعش، وغرقها وسط خلافات طاحنة بين أحزاب شيعية متشددة تسعى للهيمنة على القرار في بغداد.
ويرى روس أن “الولايات المتحدة تدعم العبادي لأنه يحاول أن يشكل حكومة شاملة وتوافقية تضم جميع الأطراف. صحيح أن العبادي يظل مقيدا من قبل الميليشيات الشيعية وإيران، لكن الولايات المتحدة هنا تدعم استراتيجية دمج السنة في الحكومة، بالإضافة إلى توفير الأمن والسلاح للعشائر هناك. إقصاء السنة سيؤكد مخاوفنا في واشنطن من أنه حتى لو نجحت الحكومة العراقية في هزيمة تنظيم داعش، فسيظهر بديل له أكثر تشددا. لذا فإنه يجب أن نقدم المساعدة في تحرير مدينة الموصل، بشرط ألا يكون هناك أي دور للميليشيات الشيعية كعصائب أهل الحق وغيرها في العملية”.
سوريا.. لا مستقبل قريب
لم يشعر روس بالارتياح الكبير في العمل مع فريق الرئيس أوباما. كان روس، الذي ساهم في إطلاق عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين في عهد الرئيس بيل كلينتون وأسفرت في عام 1995 عن توقيع الاتفاق المؤقت حول الضفة الغربية وقطاع غزة، يحلم بإعادة إطلاق المفاوضات المعطلة بين الجانبين.
وصلت الخلافات بين روس ومبعوث الرئيس الخاص للشرق الأوسط جورج ميتشيل إلى المقاطعة الشخصية وتجنب الحديث إلى بعضهما البعض، لأن عروض روس بوقف الاستيطان مقابل مساعدات عسكرية سخية انهالت على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من دون علم ميتشيل ومسؤولين آخرين في الإدارة.
الشيء الوحيد الذي بات مؤكدا الآن هو أن القوى البراغماتية في إيران تستطيع أن تنجح فقط عندما يصير واضحا أن سياسات الحرس الثوري باتت مكلفة جدا
لكن قبل خروجه من الإدارة عام 2011 ببضعة أشهر كان ملف السلام قد وضع على الرف وسط أمواج الاضطرابات التي اجتاحت المنطقة، وتحولت في سوريا لاحقا إلى حرب دمويـة راح ضحيتها أكثر من 300 ألف شخص.
ولم تكن الولايات المتحدة هناك لرسم استراتيجية واضحة إزاء الصراع الذي لم يستغرق الوقت الطويل كي يتحول إلى بؤرة جديدة لنشر الفكر الجهادي في الشرق الأوسط.
وهيمن على مقاربة الولايات المتحدة طوال خمسة أعوام، هي عمر الصراع، الالتباس.
ويقول روس، الذي طالما وصف سياسات أوباما تجاه سوريا بالمرتبكة، “في الوقت الحالي، تقوم السياسة الأميركية على الأمل في نجاح العملية السياسية والانتقالية وفقا لمبادئ فيينا، لكن الرئيس أوباما لا يبدو مستعدا لممارسة أي نفوذ في السعي إلى تثبيت هذه المبادئ والعمل طبقا لها، لأنه حين نظر إلى سوريا رأى فيها العراق”.
ليست لدى الروس نفس النظرة. ولم يتردد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اللجوء إلى القوة في سبتمبر الماضي من أجل تغيير موازين القوى في سوريا، وتأمين بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة.
ويقول روس إن إجابة أوباما الأولى حينما يأتي الحديث عن أي تدخل في سوريا كانت “أخبروني بما سيؤول إليه في النهاية هذا الخيار”.
ويقول روس “الرئيس محقٌّ حتما في سؤاله هذا، لكنه أغفل طرح السؤال الأهم، وهو: أخبروني بما سيحدث إذا لم نتصرف؟ لو أنه عرف أن الامتناع عن التصرف سيوجد فراغا تقع فيه كارثة إنسانية وأزمة لجوء مروعة وحرب بالوكالة متفاقمة يتنامى فيه تنظيم داعش في العراق وسوريا، لربما كانت ردوده لتختلف”.
وأضاف “لم يحدث الفراغ بسبب قيام الولايات المتحدة باستبدال نظام الأسد بل بسبب ترددها في فعل ما هو أكثر من التصريحات، فعليا بسبب إفراط واشنطن في تعلم الدروس من العراق”.
وكان روس من أوائل الذين طرحوا فكرة وقف إطلاق النار في سوريا لا يشمل تنظيم داعش. وطالما بنى حجته في ذلك على أنه “في غياب أي اتفاق لوقف إطلاق النار لن تنضمّ الدول والعشائر السنية فعليا إلى الحرب ضد داعش. ليس لأي سبب آخر سوى أن يظهروا أن الهجوم ضد السنة في سوريا قد توقف وأنهم نجحوا في حمايتهم”.
ومن بين هذه الدول التي أشار إليها السعودية وتركيا وقطر التي تدعم بقوة فصائل المعارضة المسلحة. وتشعر هذه الدول كل يوم أنها تركت وحيدة من قبل واشنطن الخائفة من تجربة العراق، في مواجهة موسكو التي لا تبدو خائفة من تجربة أفغانستان.
ويقول روس “لا يبدي بوتين ما يدل على أن قراءته للتدخل الروسي في أفغانستان تشكل أي رادع أمامه، ربما لأنه يعلم أنه لا ينوي نشر قوة برية كبيرة على النحو نفسه وربما أيضا لأنه يعتقد أن الولايات المتحدة لن تكبّده تكاليف أكبر”. وأضاف “أما بالنسبة إلى الرئيس أوباما، لا تزال التجربة العراقية تلقي بظلالها على حساباته. فهو، شأنه شأن الرؤساء الذين سبقوه، يسترشد بقراءاته للحالات المشابهة. ولا عيب في ذلك بتاتا، شرط أن يكون التشابه صائبا”.
ويقول خبراء عسكريون كثر إن هاجس ما يطلق عليه في البنتاغون “تمادي المهمة إلى ما بعد أهدافها الأصلية” في سوريا كان مسيطرا على الرئيس أوباما طوال الوقت.
ويقول روس “هذا أمر يمكن أن تتجنبه الولايات المتحدة بدرجة أكبر إذا حذت حذو جورج بوش الأب عند ردع الرئيس العراقي صدام حسين عندما غزى الكويت وحددت أهدافها بشكل واضح منذ البداية”.
ذوبان المنطقة
لم يكن الاتفاق النووي من وجهة نظر الكثير من مساعدي أوباما خطوة لإعادة رسم الشرق الأوسط، بل كان مقدمة لجعل بلد خطر أقل خطورة. ويعمل أوباما الآن، كما يقول روس، على أساس أن الاتفاق فتح استراتيجي مهمّ في الشرق الأوسط قد يقود إلى توازن بين السنّة والشيعة.
لكنه لا ينكر أيضا أن فرض هذا التوازن على دول الخليج وإيران سيطيل من فترات الاضطرابات الحادة التي تغوص فيها المنطقة.
ويقول روس “أخشى أن هذا الانهيار سيستغرق وقتا طويلا. هناك صراع محتدم على الهوية في المنطقة، وعلى من سيوكل له الدور في تشكيلها. هناك حروب بالوكالة تدور رحاها الآن في سوريا واليمن. يتحكم في كل ذلك الانقسام الشيعي – السني”.
وأضاف “أستطيع أن أقول إن هذه التفاعلات لن تهدأ قريبا. السؤال هو: هل ستوافق إيران على التوقف عن محاولاتها لأن تصبح زعيمة المنطقة؟ الشيء الوحيد الذي بات مؤكدا الآن هو أن القوى البراغماتية في إيران تستطيع أن تنجح فقط عندما يصير واضحا أن سياسات الحرس الثوري باتت مكلفة جدا”.
أحمد أبو دوح
صحيفة العرب اللندنية