أحد العوامل التي دفعت بموضوع الشريعة الإسلامية إلى مقدمة النقاش العام، هو أن أولئك الذين يحاولون فهم التطرف -أو بشكل أوسع، دور الإسلام في الحياة العامة- اضطروا إلى التعامل بطريقة أكثر جدية مع قضية التربية الإسلامية، والدور الذي ربما تلعبه بنى عقائدية مخصوصة -من الصوفية إلى السلفية وكل شيء بينهما- في تكوين أشكال من الممارسة الإسلامية بطريقة أو بأخرى.
ويتصل ذلك بالجدال المقيم، غير المنتهي والذي غالباً ما يكون محبطاً، حول ما إذا كان تنظيم الدولة الإسلامية “إسلامياً حقاً”. وقد لاحظ أحد طرفي هذا النقاش -محقاً- أن معظم مجندي “داعش” الأجانب ليسوا متعلمين دينياً. ويبدو أن ما كشف النقاب عنه مؤخراً من مذكرات “داعش” الداخلية يدعم هذا الزعم للوهلة الأولى.
يوثق هذا الكشف الكبير ملفات المجندين الأجانب في “الدولة الإسلامية”، بما في ذلك بعض التفاصيل الدقيقة في بعض الأحيان عن بياناتهم الشخصية، وتواريخهم الماضية، ودوافعهم للانضمام إلى القتال. وحتى الآن، كان الصحفيون هم الذين استطلعوا هذه الوثائق إلى حد كبير، وقاموا بعمل جيد من ناحية استخلاص معلومات مثيرة للاهتمام وتجميع الاتجاهات الأولية للمقاتلين. ويصح هذا بشكل خاص عندما يجري يذهب صاحب خبرة عميقة ومهارات بحثية، مثل ياسين مشربش، عميقاً في تحليل مجموعة مكونة من نحو 3.000 من هذه الوثائق. وكان أحد العناصر التي لاحظها مشربش في تقطيره الأولي للبيانات هو أن غالبية عظمى من مجندي “داعش” يصنفون معرفتهم بالشريعة على أنها “ضعيفة”، ويبدو أن عدداً قليلاً نسبياً من هؤلاء المقاتلين تلقوا تعليماً متقدماً في الشريعة.
بناء على مناقشات سابقة حول التطرف والتقاطع بين العقيدة والتجنيد الجهادي، من المرجح أن بعض المراقبين على الأقل سوف يستنتجون من هذه الوثائق أن “الدولة الإسلامية” ومجنديها يستخدمون الدين بخبث، أو أنها ليست لهذه الظاهرة في الحقيقة أي صلة بالدين. ومع ذلك، لن يكون مثل هذا الاستنتاج غير مبرر بالنظر إلى الأدلة المتوفرة، وهو يتبنى منهجاً بالغ التبسيط لفهم تعقيدات الشريعة والمعرفة الإسلامية بشكل عام.
لا يقول الضعف النسبي في معرفة أحد ما بالشريعة الكثير بالضرورة عن كم هو متدين أو يريد أن يكون. ففي المقام الأول، ليس عمق المعرفة بالشريعة شائعاً بشكل خاص عند المسلمين الملتزمين، وقد جاءت الفكرة بأنه يجب أن يكون كذلك من تصورات الخارجيين بالعديد من الطرق. وكان التراث الاستشراقي الأكاديمي القديم مبنياً على دراسة وثيقة للنصوص التي كتبها مفكرون مسلمون متعلمون “علماء”، أو مسلمون جيدو التعليم ومثقفون دينياً للغاية، من المعنيين بالقضايا العميقة الخاصة بالتفسير والتأويل وأكثر من ذلك. وقد ركز بعض هؤلاء الباحثين الاستشراقيين، مثل جوزيف شاخت، على دراسة الشريعة والقضايا القانونية المتضمنة فيها (الفقه)، ووضعوها بالكثير من الطرق في مركز المعنى الإسلامي للحياة. وفي وقت أقرب، وعلى الرغم من أن خبراء مثل وائل حلاق استنطقوا هذه التصورات القديمة للشريعة، فإنهم وضعوها هم أيضاً في مركز بنى الأخلاق والممارسة في مجتمعات ما قبل الاستعمار. ويصف حلاق موت “نظام الشريعة” الذي صاحب الكولنيالية كأحد الأسباب التي تجعل التصورات عن ماضٍ إسلامي مخصوص أو مفهوم سابق للدولة غير ذات صلة وغير قابل للاستعادة اليوم، ببساطة.
ما يمكن أن تغفله هذه الأوصاف في النقاش العام هو أن الدراسة العميقة للشريعة لم تكن شائعة بشكل خاص بين المسلمين العاديين في أي وقت في العالم المسلم، وإنما كانت محفوظة بشكل عام للعلماء الذين كرسوا حياتهم لدراسة هذه القضايا. وسوف يكون انتقاد عمق الشعور الديني لأحد ما -أو حتى معرفته- على أساس افتقاره للمعرفة بالشريعة، أشبه بالتشكيك في شعور مواطن أميركي بالترابط المدني لأنه لم يدرس القانون ويعمل محامياً. ربما لا يعرف هؤلاء الناس شيئاً عن القانون، لكن هناك ما هو أكثر بكثير في شعور الأميركي بأنه أميركي من مجرد هذه المعرفة.
بالطريقة نفسها، يدور المعتقد والممارسة الدينيين –حتى في الأشكال الأكثر صرامة- حول ما هو أكثر بكثير من مجرد القانون. وكانت النقاشات الأكاديمية بطيئة أحياناً في فهم هذا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتوصيفات الكسولة للصوفية القائمة على “الباطنية” المفترضة، وافتقار الصوفيين إلى التزمت الديني (أياً كان تعريفه)، والتي تتجاهل التدريب والتعليم التفسيري والتأويلي وتواريخ العديد من القادة الصوفيين على مر القرون.
بالنسبة لمجندي “داعش”، يمكن أن تعني المعرفة الضعيفة بالشريعة العديد من الأشياء. إنها يمكن أن تعني -بل إنها تعني في بعض الأحيان، وإنما ليس دائماً- الجهل الحقيقي حتى بالمبادئ الدينية الأساسية. وينضم الناس إلى الحركات المتشددة بسبب مجموعة متنوعة من المناطق المتقاطعة، بما فيها المعتقد الديني، والسياسة، والاقتصاد، وأكثر من ذلك.
تقول المعرفة المحدودة بمنطقة من الإسلام، والتي تكون متروكة تقليدياً للخبراء المكرسين، القليل عن معالم المعتقد الديني الفردي؛ وإذا كان ذلك يعني أي شيء، فهو أنه يعكس توقعاتنا ونظراتنا الخاصة تجاه الآخرين حول الحداثة والتعليم. ويمكن أن يكون شخص ما مؤمناً متحمساً، بل وحتى مؤمناً عارفاً (كما أجرؤ على القول) بقضية وعدالة “الدولة الإسلامية” من دون أن تكون له الكثير من المعرفة بالشريعة. ولا شك أن هذه المجموعة سعيدة بنشر تفسيراتها الخاصة للدين من خلال التعليم وتوزيع النصوص حول الشريعة، لكن الأكثر من مرجح هو أن الذين ينضمون إلى “الدولة الإسلامية” كانوا ميالين مسبقاً إلى دعم هذه التأويلات.
بالإضافة إلى ذلك، وكما قال القائد في جماعة الإخوان المسلمين المصرية، عمرو دراج، في مشروع معهد بروكينغر لإعادة النظر في الإسلام السياسي، فإن من التحديات التي تواجه المحللين الغربيين في فهم الحركات الإسلامية هو القبول بدور الدين في تشكيل تصرفات أعضاء هذه الحركات. إن الإيمان هو شيء يصعب تعريفه وقياسه كفئة تحليلية، وكان هذا أحد الأسباب التي دفعت المستشرقين المبكرين إلى العثور على ملاذ في مصادر يستطيعون لمسها ورؤيتها.
مع ذلك، ربما يبالغ دراج في حججه عن الإيمان عندما يفرق بين منظمات مثل الإخوان المسلمين و”داعش”. وهو يقترح أن “الهوة بين الإخوان المسلمين وتلك المجموعات الأخرى هي تفضيل الجماعة الإيمان على المنفعة -مع عدم تقليلها من قيمة الأخيرة- بينما المجموعات الأخرى، مثل داعش، تفضل المنفعة على الأخلاق والإيمان -في حين تقلل من شأن الأخيرين باسم الأولى”. وسواء كان هذا صحيحاً أو غير ذلك من منظور مؤسسي، فإنه لا ينبغي لنا التقليل من الدور الذي يلعبه الإيمان في توجيه قرارات مجندي “داعش”، وهو إيمان ربما لا يكون معتمداً على معرفة دينية مخصوصة، أو الذي ربما يفضل تأويلات معينة على أخرى، حتى لو كان هؤلاء المجندون لا يقيِّمون عالياً معرفتهم بالشريعة. وبالإضافة إلى ذلك، وباستبعاد الإيمان كحافز ممكن لـ”داعش”، يرتكب دراج الخطأ نفسه الذي ينتقد عليه أولئك الذين يكتبون عن جماعة الإخوان، ويفترض تحويلاً للإسلام ليكون أداة لخدمة غايات سياسية، بينما يتجاهل احتمال أن يكون العكس صحيحاً أيضاً.
تجلبنا هذه النقطة إلى سؤال التصدي لجهود التجنيد التي يبذلها “داعش” والمنظمات المماثلة. فبسبب الاعتقاد بأن المجندين الجهاديين يعانون نقصاً في معرفتهم بالدين “الصحيح”، قالت مجموعة من الشخصيات على مر السنين -والتي تتراوح من ملك المغرب إلى روبرت لامبرت، الرئيس الأول لوحدة الاتصال الإسلامية في جهاز شرطة العاصمة البريطانية، إلى الأئمة والمسلمين العاديين- إن أحد عوامل التصحيح الرئيسية يجب أن يأتي من تعليم إسلامي أفضل من المبادئ والخلفيات المعتدلة ظاهرياً. ولا عيب في هذه الحجة في حد ذاتها، لكنها تتجاهل العديد من القضايا. وعلى سبيل المثال، ربما يكون مجندو “داعش” قد فكروا بهذه المبادئ وأنظمة الاعتقاد “المعتدلة” ورفضوها قبل انضمامهم، أكثر من كونهم انضموا لأنهم لم يكونوا مدركين ببساطة للتفسيرات الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، سعت الحكومات الأميركية والأوروبية، أو حتى المسلمة ظاهرياً، وبدرجات متفاوتة إلى تعزيز مَن يُدعون “معتدلين”، وهو ما انطوى على إمكانية نزعة صدقية وتشويه سمعة هؤلاء القادة المسلمين من خلال ربطهم ببرامج الحكومات.
أخيراً، هذه الأسئلة عن التعليم الإسلامي وهياكل السلطة التنظيمية هي بعيدة كل البعد عن أن تكون لاسياسية. وحتى مع أن قادة الدول والمجتمعات الإسلامية يريدون منع التطرف والعنف، فإن ممارسة السيطرة على البنى الدينية والقادة الدينيين تعني أيضاً ممارسة السيطرة على المؤمنين أنفسهم. وقد بذلت دول مثل تركيا والجزائر والمغرب، على سبيل المثال، جهوداً لتحقيق سيطرة أكبر على المساجد وتعيين الأئمة الموالين للحكومة، في جزء منه تحت ستار محاربة التطرف. كما أطرت المغرب نفسها باطراد على أنها شريك في مكافحة التطرف -ليس في المغرب وأوروبا فقط، وإنما في منطقة جنوب الصحراء الأفريقية أيضاً. أما إذا كانت هذه البرامج والمبادرات فعالة، فهو موضوع لمقالة أخرى. لكن هذه المبادرات لم تفضِ إلى المزيد من تسييس التربية والتعليم والخطاب الإسلامي فقط، وإنما تخدم أيضاً كأدوات سياسة خارجية للحكومات، من أجل تعزيز شرعيتها في الخارج، وزيادة إغواء الحكومات الغربية بتجاهل قضايا مثل الفساد والانتهاكات القضائية لصالح وجود شركاء أقوياء ضد التطرف.
ترجمة:علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية