حينما يبدأ مجلس النواب فى نظر قضية جزيرتى تيران وصنافير، فربما تكون أولى الخطوات الواجب اتباعها هى بناء قصة الجزيرتين. وعلى عكس ما يبدو لفريقين فى الساحة السياسية المصرية، فإن التاريخ لم يكن رحيما بنا فى تقلباته بين الدول، كما ظهرت الجغرافيا أقل وضوحا مما تصر عليه جماعات منا. ولذلك فإن تعريف القضية واجب من البداية إلى النهاية، وببساطة فإن السؤال هو: متى تحديدا أصبحت هناك قضية للجزيرتين تستوجب التفاوض والتوصل إلى حل؟ بداية النهاية كانت مع التوصل إلى الاتفاق المصرى- السعودى لترسيم الحدود البحرية، ولكن النهاية سوف تكون عندما يجرى التصديق على الاتفاق فى مجلس النواب، و/ أو من الشعب من خلال عملية الاستفتاء.
التاريخ القديم لا يشير إلى الحدود المصرية بالقدر من الوضوح والاستمرارية الذى تؤكد عليها جماعة منا، فقد تمددت وانكمشت تلك الحدود ذهابا وإيابا، وابتعادا واقترابا من وادى النيل. لا مفر إذن من القفز فورا إلى عهد محمد على ومعاهدة لندن 1840 التى كان فيها الوالى، محمد على، على استعداد لكى يتخلى عن منطقة الشام ابتداء من جنوب ولاية سوريا حتى حدودها الشمالية مع تركيا، مقابل أن تبقى له مصر كما نعرفها الآن، مضافاً لها جزء من الساحل الغربى لخليج العقبة حيث كانت إمارة جبل شمر. لم يُذكر أى من الجزيرتين بالاسم فى المعاهدة، ولم يكن هناك داع لذلك، لأن ولاية مصر التابعة قانونيا فى ذلك الوقت للخلافة العثمانية اكتسبت حقا على جانبى الخليج. ولكن الأمر كله تغير عام 1895 عندما قامت دولة الخلافة بفصل سيناء كلها عن مصر فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى، ومع الإجراء انفصلت مصر عن خليج العقبة أيضا، وانكمشت حدودها غربا إلى قناة السويس. وفى 1906 تفاوضت دولة الخلافة العثمانية مع واحدة من ولاياتها- مصر- التى كانت تحت الاحتلال البريطانى، على تخطيط حدود هذه الولاية بينها وبين الإمبراطورية. الشائع عن هذا الاتفاق أنه كان فقط لتحديد الحدود البرية بين مصر والدولة العثمانية، وهو قول فيه بعض من الصحة، ولكن السبب كان أن الدولة العثمانية احتفظت لنفسها بالسيادة على خليج العقبة من خلال تابعتها إمارة الحجاز. وهكذا لم تُجْر عملية تحديد الحدود البحرية لمصر، ومعه كانت تيران وصنافير تحت سيادة دولة أخرى لها صلة بالجانب الشرقى للخليج. ولعله من الضرورى هنا الإشارة إلى أن قانون البحار لم يكن موجودا، وإنما بعض الأعراف البحرية التى لا ترقى إلى مرتبة القانون. وفى كل الأحوال فإن الاتفاقية أقرت هذه الأعراف حينما أعطت نفس الحقوق للناس والمسافرين على جانبى الخليج فى تملك الأرض والحقول والحصول على المياه.
للتاريخ سوف يجد سيرة الجزيرتين تختفى من القصة كلها بعد ذلك، رغم قيام الدولة المصرية فى 1922، والدولة السعودية فى 1932، ثم تظهران مرة أخرى وبقوة فى أعقاب قيام دولة إسرائيل عام 1948. والمرجح أن السائد خلال هذه الفترة كان الاستناد إلى اتفاقية 1906 التى تجعل الحدود المصرية الشرقية تقع على خليج العقبة ومياهه الإقليمية، وما يخص الجزيرتين كان استنادهما إلى حقوق إمارة الحجاز التى آلت إلى المملكة العربية السعودية بعد سقوط الإمارة ومعها دولة الخلافة كلها. وما بعد ذلك معروف الآن، وما نُشر عن خطاب الملك عبدالعزيز آل سعود عام 1950، وخلال الرسائل المتبادلة بين الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودى، والدكتور عصمت عبدالمجيد، وزير الخارجية المصرى، والمذكرة التى رفعها الأخير إلى مجلس الوزراء المصرى فى 4 مارس 1990، وما ترتب عليها من قرار رئيس الجمهورية رقم 27 لسنة 1990 ومذكرة مصر إلى الأمم المتحدة فى 2 مايو 1990.
الشهود على ما جرى متنوعون، من السفير الأمريكى فى مصر، كافرى، فى رسالته إلى حكومته عام 1950، ورسالة دين راسك، وزير الخارجية الأمريكى، إلى أبا إيبان، وزير خارجية إسرائيل، فى 17 يناير 1968 «الوثيقة 47 عن العلاقات الخارجية للولايات المتحدة 1964- 1968، وفيها الإشارة حول محادثات مع إسرائيل والسعودية تتعلق بالانسحاب من تيران مقابل اعتراف المملكة بحرية الملاحة فى مضيق تيران»، والمؤرخ د. عبدالعظيم رمضان فى كتبه عن القضية الفلسطينية فى 2003 وعهد مبارك 1994، والأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه عن «سنوات الغليان»، وحتى مقال السيد/ سامى شرف فى صحيفة «الأهرام» مؤخرا، كلها تعطى ترجيحا للموافقة على الاتفاق المصرى- السعودى على ترسيم الحدود البحرية.
ومع ذلك، وحتى تطمئن القلوب، فلعل استكمال الوثائق المفقودة حتى الآن مثل رسالة الملك عبدالعزيز آل سعود، وما كان عليه الرد من الحكومة المصرية آنذاك، يكون ضروريا لاستكمال الملف، ومعرفة تفاصيل القصة للحكم عليها.
يبقى بعد ذلك أن هذه القصة التاريخية، والقانونية، ربما لا تُرضى مصريين يرون أن تنازل السعودية لمصر عن حماية الجزيرتين، واستمرار هذه الحماية على مدى 65 عاما، يعطى لمصر الحق فى الاحتفاظ بهما، وذلك ينقل المسألة كلها إلى حيز «السياسة» التى تدخل فيها الأولويات المصرية خلال هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا!.
د.عبدالمنعم سعيد
صحيفة المصري اليوم