حدثان مهمان، تفصل بينهما أيام قليلة، عكسا حجم التناقضات التي تتسم بها حركة التفاعلات في المنطقة. الحدث الأول كان إعلان الملك سلمان بن عبدالعزيز أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة، عن توصل مصر والسعودية إلى اتفاق لإقامة جسر بري يربط بينهما، وهو ما رأى فيه كثيرون بداية مشجعة لتحرك جاد نحو بناء علاقة استراتيجية بين أهم بلدين عربيين، يُعتقد على نطاق واسع أنها مطلوبة بإلحاح لبناء رافعة قادرة على انتشال النظام الإقليمي العربي من الهوة السحيقة التي سقط فيها.
الحدث الثاني كان قرار نتانياهو عقد جلسة خاصة لمجلس الوزراء الإسرائيلي في هضبة الجولان السورية، وذلك للمرة الأولى منذ احتلالها عام 1967، وهو ما رأى فيه كثيرون ليس فقط عملاً استفزازياً، وإنما دليلاً إضافياً على أن إسرائيل بدأت تتصرف في المنطقة وكأن النظام الإقليمي العربي مات ودفن ولم يعد قابلاً للحياة من جديد، وبالتالي أصبح لها حق في المطالبة بنصيبها من تركة «المرحوم».
وقوع حدثين على هذه الدرجة من الأهمية في وقت متزامن تقريباً يعكس حالة التخبط التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط وصعوبة التنبؤ بوجهة تفاعلاتها المستقبلية. فهناك، من جهة، مؤشرات عدة على أن القضية الفلسطينية لم يعد لها مكان على جدول أعمال النظم العربية المزدحم بقضايا أخرى. وهناك، من ناحية أخرى، إلحاح من جانب أوساط عربية عدة على أن إيران هي المصدر الرئيسي لتهديد الأمن القومي العربي، وأن مواجهته تستدعي تشكيل تحالفات إقليمية على أسس مختلفة تسمح لإسرائيل أن تلعب دوراً فاعلاً فيها. ومن الطبيعي، في ظل هذا الإصرار على تهميش القضية الفلسطينية وتجاهل النزعة التوسعية لإسرائيل، أن تثور شكوك كثيرة حول جدية الدعوات التي تستهدف إعادة إحياء النظام الإقليمي العربي، والذي ارتبط وجوداً وتطوراً ومصيراً بالقضية الفلسطينية وبالتصدي لأطماع المشروع الصهيوني في المنطقة.
كثيرة هي الدلائل التاريخية على ارتباط النظام الإقليمي العربي، صعوداً وهبوطاً، بالقضية الفلسطينية وبالتصدي للأطماع الصهيونية في المنطقة. فإدراك دول المشرق العربي للتهديد الذي مثَّلته الحركة الصهيونية، حين كانت على وشك تحقيق حلمها في تأسيس دولة يهودية في فلسطين، عجَّل بإنشاء جامعة الدول العربية التي احتلت القضية الفلسطينية موقعاً مركزياً على جدول أعمال مشاوراتها التمهيدية، وتضمن ميثاقها ملحقاً خاصاً عن فلسطين، ورفض مجلسها مشروع تقسيم فلسطين حين نوقش في الجمعية العامة للأمم المتحدة وأقر تحت ضغط أميركي كثيف. ومن أجل القضية الفلسطينية انعقد أول مؤتمر للقمة العربية، ولم يتردد مجلس الجامعة في اتخاذ قرار بخوض الحرب للحيلولة دون قيام دولة يهودية في فلسطين.
ويلاحظ، على صعيد آخر، أن هزيمة الدول العربية في حرب 1948 كانت لها تأثيرات بعيدة المدى على مجمل التفاعلات اللاحقة في المنطقة وفتحت الطريق أمام وصول الجيوش العربية إلى السلطة في العديد من الدول العربية. صحيح أن موقع «القضية الفلسطينية» تراجع بسبب تصرفات بعض الدول العربية، وبخاصة عقب قيام الدول العربية المجاورة لإسرائيل بالتوقيع على اتفاق الهدنة عام 1949 وقيام المملكة الأردنية الهاشمية ووضع قطاع غزة تحت سلطة الإدارة المصرية، إلا أن الصراع بين الدول العربية وإسرائيل ازداد حدة وأصبحت القضية الفلسطينية مسؤولية جماعية عربية. وفي هذا السياق يمكن فهم إقدام الدول العربية على إبرام معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي عام 1950، وإقدام مجلس الجامعة في العام نفسه على اتخاذ قرار يحظر على أي دولة الاعتراف بإسرائيل أو التفاوض المنفرد معها. وليس لذلك سوى معنى واحد وهو أن النظام الإقليمي العربي حرص منذ اللحظة الأولى على وضع إطار مرجعي لضبط التعامل مع إسرائيل وفق متطلبات الحرص على المواجهة الشاملة معها. ولا شك أن التزام الدول العربية بهذا الإطار لعب دوراً مهماً في المحافظة على تماسك النظام الإقليمي طوال عقود، على رغم أزمات عدة مر بها وحروب متتالية خاضها، والذي لم يبدأ بالانهيار إلا بعد دخول الدول العربية فخ التسويات السياسية المنفردة مع إسرائيل.
والواقع أنه على رغم تفهم بعض مظاهر القلق من تغلغل إيران المتزايد في شؤون الدول العربية، إلا أن اللوم هنا يقع على عاتق النظم العربية الحاكمة أكثر مما يقع على إيران نفسها. فلولا إحجام هذه النظم عن تحمل مسؤوليتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية وتقاعسها عن كبح جماح النزعة التوسعية الإسرائيلية على مدى السنوات الطويلة الماضية لما استطاعت إيران أن تتغلغل في عدد كبير الدول العربية على هذا النحو المثير للقلق فعلاً.
لقد كان اندلاع الثورة الإيرانية بعد أشهر قليلة من إبرام مصر معاهدة سلام منفرد مع إسرائيل، واحداً من أغرب المفارقات في التاريخ المعاصر. فلم تكد هذه الثورة تثبت أقدامها حتى كانت قد اتخذت قراراً بطرد السفير الإسرائيلي من طهران وتسليم مقر السفارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ثم راحت تلقي بثقلها وراء الجهود الرامية لتأسيس «حزب الله» في لبنان عقب اجتياح إسرائيل للعاصمة اللبنانية عام 1982، خصوصاً بعد أن نجحت إسرائيل في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من الجنوب اللبناني ونفي قيادتها إلى تونس ثم العمل على إبرام معاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل تحت ضغط الاحتلال.
ومع تنامي قوة «حزب الله»، كتنظيم مقاوم للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، واندلاع الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وظهور «حماس» و «الجهاد الإسلامي» كتنظيمات فلسطينية مقاومة، وازدياد الحرب العراقية الإيرانية اشتعالاً، بدأت تظهر في المنطقة معالم استقطاب بين معسكرين، أحدهما يرفع شعارات «المقاومة» وتقوده إيران، والآخر يرفع شعارات «التسوية السياسية» وتقوده مصر. وحين انتهت الحرب الإيرانية العراقية وبات الطريق مفتوحاً أمام عودة جامعة الدول العربية إلى مقرها في القاهرة، ساد انطباع عام بأن كفة معسكر التسوية بدأت ترجح، ثم عادت الأوراق لتختلط من جديد عقب قرار صدام حسين غزو الكويت، لكن التفاعلات اللاحقة سرعان ما عادت لتصب في الاتجاه نفسه. فقد تسبب هذا القرار الأحمق في تدخل عسكري أميركي واسع النطاق، انتهى بتحرير الكويت، فانعقاد مؤتمر مدريد، فانهيار الاتحاد السوفياتي، لتتربع الولايات المتحدة في النهاية على عرش النظام العالمي منفردة. وفي ظل هذا التحول المفاجئ في موازين القوى العالمية والإقليمية، وجد ياسر عرفات نفسه مضطراً لتوقيع «اتفاق أوسلو». وبدخول منظمة التحرير الفلسطينية فخ التسويات المنفردة، بدأ النظام الإقليمي العربي يفقد مناعته وتظهر عليه أعراض الانهاك.
ثلاثة مشاهد تاريخية كبرى تجسد ما آل إليه حال النظام العربي بعد تخليه عن القضية الفلسطينية وعزوفه عن التصدي للأطماع الصهيونية. المشهد الأول جرى في مصر وجسَّده اغتيال الرئيس أنور السادات، «بطل الحرب والسلام» ورئيس أكبر دولة عربية، بعد توقيعه على أول معاهدة سلام منفرد مع إسرائيل وقبل أشهر قليلة من إتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء. المثير للتأمل هنا أن سيناء أصبحت الآن، وبعد أكثر من ثلث قرن على استردادها شبه منزوعة السلاح، ساحة حرب تسيل فيها دماء المصريين، ولكن في مواجهة عدو آخر غير إسرائيل. المشهد الثاني جرى في فلسطين، وجسَّده إقدام إسرائيل على اغتيال ياسر عرفات، رمز القضية الفلسطينية ورمز المقاومة، بعد حصاره لسنوات في «المقاطعة»، على رغم توقيعه اتفاق أوسلو. المثير للتأمل هنا أن الشعب الفلسطيني، وبعد أكثر من عشرين عاماً من «أوسلو»، لا يزال يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي ويتعرض للحصار والتجويع والتشريد والقتل، وما زال بناء المستوطنات على الأرض الفلسطينية يتواصل، على رغم وجود «سلطة وطنية» عليها، والأنكى أن هذه السلطة مطالبة على رغم ذلك، بل ملتزمة، بالتنسيق الأمني مع إسرائيل.
المشهد الثالث يجسده الوضع الحالي لبشار الأسد، زعيم الرافضين العرب لسلامٍ بالشروط الإسرائيلية، والذي أصبح محاصراً الآن بين حربين: حرب في مواجهة جزء من شعبه الذي ثار عليه، وحرب أخرى في مواجهة إرهابيين لا تزال أعداد هائلة منهم تتدفق على سورية من خارجها، ليتم تدمير «قلب العروبة النابض» وتشريد نصف سكانه. وفي هذا السياق يبدو أن إسرائيل أرادت، من خلال عقد جلسة لمجلس وزرائها والإعلان عن نيتها «الاحتفاظ بالجولان للأبد»، أن تبعث برسالة للشعوب العربية مفادها أن الموقِّعين، حتى لو كانوا مفرّطين، ربما يكونون أفضل حالاً من الممانعين، حتى لو كانوا مقاومين.
الفوضى التي تضرب الآن في جنبات العالم العربي هي نتيجة مباشرة لزرع إسرائيل في المنطقة، ولم يكن التغلغل الإيراني في شؤون العالم العربي ممكناً إلا بعد تقاعس النظم العربية عن التصدي للمشروع الصهيوني. لذا لا أمل مطلقاً في إعادة إحياء النظام الإقليمي العربي إلا إذا كان مستعداً لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية ولمقاومة المشروع الصهيوني التوسعي والعنصري.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية