من مفارقات الهجوم على صحيفة “تشارلي إيبدو” الفرنسية التي اشتهرت برسومات مسيئة متكررة للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ولمقدسات الأديان السماوية الثلاثة، أنه جاء في وقت يحتفل المسلمون فيه بذكرى مولده. كما أن الهجوم الذي قام به ملثمان بالأسلحة الآلية، أودى بحياة 4 رسامين فرنسيين مشاهير، هم رئيس تحرير المجلة “ستيفان شاربونيه” و3 من رسامي الكاريكاتير وهم: كابو Cabu، تينيوس Tignous وفولينسكي Wolinski.
ومن المفارقات أيضًا أن آخر كاريكاتير للرسام “شارب” الذي لقي حتفه كان يصور إرهابيًا يحمل رشاشًا على ظهره ويقول: “ما من عمليات في فرنسا.. انتظروا حتى نهاية يناير لتقديم التهاني“.
أما المؤكد، الذي يثير مخاوف كثيرين من مسلمي فرنسا والغرب عمومًا، فهو أن تفتح هذه العملية أبواب الشرور عليهم مرة أخرى وتزيد “الإسلاموفوبيا” المتصاعدة مؤخرًا خصوصًا في فرنسا والسويد وألمانيا وسط دعوات لطرد المسلمين، لهذا صدرت عشرات البيانات من الجاليات المسلمة في أوروبا تندد بالجريمة وتلمح لاحتمال تصعيد الاتهامات ضد المسلمين وترجمتها إلى مواقف أشد عدائية ضد المسلمين.
شهود عيان في باريس كتبوا على تويتر وفيسبوك يؤكدون أن: “مهاجمين صاحا قبل الهروب: “قتلنا #شارلي_آبدو..انتقمنا للرسول”، ولكن بعضهم كتب يقول: “قتلوا أيضًا مشاعر تعاطف الكثير من الفرنسيين مع مسلمي العالم”، وأكدوا أن الجناة ثلاثة مسلحون وأنهم فروا عقب العملية ولم يتم القبض عليهم حتى اللحظة.
رئيس تحرير المجلة ستيفان شاربونيه الذي قتل مع 3 من رسامي الكاريكاتير سبق أن تلقى تهديدات بالقتل بسبب إصراره على العداء للرسول والمسلمين بنشر صور مسيئة تظهره -صلى الله عليه وسلم- يعتمر قبعة من المتفجرات أو في أوضاع غير لائق.
وقد نشرت مجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية عددًا خاصًا فيه السيرة المصورة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، التي تستند، حسب زعم المجلة، إلى مؤلفات الكتاب المسلمين حصرًا، على هيئة رسوم ساخرة، وقال المسؤولون في المجلة إنهم لا يقصدون إثارة المسلمين أو استفزازهم، ولا يتوقعون اعتراضات على مضمون السيرة ولا يرون مشكلة في إطلاع المسلمين عليها.
وكان مدير تحرير المجلة يقول، إن السيرة هي تجميع لكتابات المسلمين، ولم تقم المجلة إلا بإنتاجها على شكل صور، وعندما سئل عن معارضة الكثير من المسلمين على تصوير النبي، أجاب أن ذلك “مجرد عُرف، لم يرد التحريم في القرآن، وبما أن ذلك لا يهدف إلى السخرية من محمد فلا أرى مبررًا لعدم قراءة هذا الكتيب كما تقرأ حكايات عن حياة يسوع في كتب التربية الدينية المسيحية“.
ولكن لأن هذا الهجوم هو الأول من نوعه في باريس على صحيفة بهذه الطريقة، وفي أول العام الجديد، فقد شكل تحديًا كبيرًا للرئيس الفرنسي والسلطات، واستغلته جماعات معادية للمسلمين فورًا في زيادة حملة الكراهية ضدهم والاعتداء على بعضهم ولهذا أعلنت السلطات الفرنسية على الفور رفع حالة التأهب الأمني لأقصى درجاته ووصف الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الذي انتقل للمكان، الهجوم بأنه “إرهابي”.
وفرضت قوات الشرطة الفرنسية حراسة مشدّدة على جميع مقار الصحف والمعاهد والمؤسسات الدينية والتجمّعات التجارية الكبيرة الواقعة في باريس، في حين أعلنت أنها ماضية في عمليات التحقيق بحثًا عن منفذي الهجوم اللذين لا يزالان طليقين، وفق تأكيدها.
ودعا رئيس الجمهورية الفرنسية، فرانسوا هولاند، إلى اجتماع عاجل لحكومته في قصر “الإليزيه” لمناقشة القرارات والإجراءات التي سيلجأ إلى اتخاذها على خلفية الهجوم الذي وصفه بـ “إرهابي ودنيء”.
انعكاسات سلبية على المسلمين
وقد سادت حالة من الخوف والترقّب والغضب في صفوف الشارع الفرنسي، عقب الهجوم المسلّح، ورأى محلّلون سياسيون، بحسب تقرير لوكالة “قدس برس” من باريس، أن الهجوم الذي استهدف مقر الصحيفة الفرنسية، سيكون له تداعيات وآثار سلبية على أوضاع الجالية الإسلامية في فرنسا، والتي أكّد رؤساء منظماتها ومجالسها إدانتهم للعمل الذي وصفوه بـ “الإجرامي”، كما أكّدوا أنه لا يمت للإسلام بأي صلة.
وقد أعرب الرئيس السابق لـ “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا” عبد الله منصور، الذي أدان الاعتداء ووصفه بأنه “عمل إجرامي” لا علاقة له بالإسلام والمسلمين، عن خشيته من أن يكون لاتهام المسلمين بالمسؤولية عن هذا العمل الإجرامي تداعيات سلبية على واقع المسلمين في فرنسا.
وقال منصور في تصريحات لـ “قدس برس”: “لا شك أن هذا العمل الإجرامي سيكون له ما بعده، وستتبعه حملات إعلامية وأمنية وسينال المتطرفون وغيرهم من المسلمين من ذلك الكثير من المعاناة، وسيصاب المسلمون بالأذى على الرغم من أن الإسلام والمسلمين براء من هذه الأعمال الإرهابية“، على حد تعبيره.
ودعا منصور العقلاء من السياسيين والإعلاميين والنخب الفرنسية إلى التريث وعدم الاستعجال في اتهام أي جهة بالوقوف خلف هذا العمل الإرهابي المرفوض، وانتظار كلمة القضاء في ذلك، وقال: “نحن في اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا ندين بشدة أعمال العنف والإرهاب بغض النظر عن مرتكبها والضحية، وندين أي عمل يعرض الناس والحيوان والممتلكات للخطر، هذه قضية مبدئية“.
أيضًا أدان رئيس المجلس الإسلامي في الدنمارك الشيخ عبد الحميد الحمدي استهداف مجلة “شارلي إيبدو” في العاصمة الفرنسية باريس واعتبر أن ما جرى كان عملًا إجراميًا لا صلة له بالإسلام والمسلمين.
وقال الحمدي في تصريحات صحفية تعليقًا على هذا الهجوم: “أدين بأشد العبارات هذا العمل الإجرامي الذي لا يمت للإنسانية بأية صلة، وأؤكد أنه عمل جبان ومرفوض، وينافي تعاليم الإسلام السمحاء التي تحرم قتل النفس البشرية، كما يعارض كل القوانين والشرائع السماوية والدنيوية. ومما لا شك فيه أن المجرم الذي اقترف هذا العمل لا صلة له بالإسلام والمسلمين“.
وأضاف: “نحن في الدنمارك عندما نشرت صحيفة فرنسية الرسوم الكارتونية المسيئة للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- دعونا المسلمين إلى اعتماد الأدوات السلمية والقانونية للدفاع عن خير البرية، ووجدنا الآذان الصاغية من المسئولين في الدنمارك، وفتحوا لنا كل الأبواب من أجل الدفع بالتي هي أحسن وأقوم.
“وقد نال المسلمون نتيجة سلوكهم العقلاني مكانة مرموقة في الدنمارك، وافتتحوا مسجدًا بمئذنة هي الأولى من نوعها في الدول الإسكندنافية ومركزًا حضاريًا يستقطب خيرة العلماء في العالم، لإدارة حوار بناء يسهم في ترسيخ قيم التعايش والتسامح والوحدة بين مكونات المجتمع، وهذا هو النهج الذي نطمح إلى أن يكون نموذجًا للمسلمين في أوروبا“، على حد تعبيره.
من يريد أن يفرض معركة الإرهاب على فرنسا؟
المفكر العربي الفرنسي برهان غليون الذي نفى أي صلة لمسلمي فرنسا بالهجوم على مجلة “شارلي إيبدو”، قال إن الذي جرى ضد مقر مجلة شارلي إيبدو “هو عمل إجرامي بل وحربي وليس عملًا بسيطًا، ومن الواجب على المسلمين في فرنسا أن يتبرءوا منه وأن يظهروا ولاءهم للقانون وللدولة، لا بد من رد فعل قوي من المسلمين“.
وأشار غليون إلى أن الهدف من هذا العمل الإرهابي هو تغيير أولويات فرنسا والغرب، قائلًا: “أعتقد أن هناك من يريد أن يفرض على فرنسا معركة الإرهاب، وأنه هو الهدف الأساس والرئيس لكل شعوب العالم، وأنه الحرب الوحيدة، وأن كل ما عدا ذلك وما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان ثانوي. هناك محاولة مصدرها ما يحصل في المشرق للتغطية على الجرائم الكبرى ضد الشعوب باسم الإرهاب، وهذه عملية تريد أن تؤكد أن الإرهاب لا يستهدف فقط دول المشرق وإنما أيضًا دول الغرب”، على حد تعبيره.
ورغم نشرها صورًا مسيئة للرسول، أدان الأزهر الشريف في بيان قصير الهجوم المسلح على مقر المجلة الفرنسية “شارلي إيبدو” في باريس، وذكر الأزهر، في بيان الأربعاء، أن “هذا الحادث إجرامي، والإسلام يرفض أي أعمال عنف“، دون تفاصيل.
وسبق للأزهر ونقابات مصرية أن انتقدت رسومات سابقة للمجلة، بيد أنها عزفت هذه المرة عن التطرق لما نشرته المجلة وكان سببًا في الهجوم عليها.
وقد نددت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة “ايسيسكو”، بالهجوم المسلح الذي استهدف مقر الجريدة الفرنسية “شارلي إيبدو”، وقالت في بيان: “إن هذا الهجوم جريمة نكراء يرفضها الإسلام ويجرم مرتكبيها”.
وأكدت “الايسيسكو” أن الرد على مواقف جريدة “شارلي إيبدو” المستفزة لمشاعر المسلمين، من خلال نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول الكريم، لا يتم عن طريق العنف والقتل والترهيب، بل في إطار الحوار والإقناع وتوضيح حقائق الإسلام وشخصية الرسول الكريم، وتبيان حدود حرية التعبير استنادًا إلى القانون الدولي للإعلام ومبادئ حقوق الإنسان وقرار الأمم المتحدة بشان مناهضة تشويه صورة الأديان، كما قال البيان.
عادل القاضي
نقلا عن التقرير