يحيل فوز صادق خان (والذي كان منتظرا ومتوقّعا) بالانتخابات البلدية في لندن في أذهان دارسي مسألة التسامح والقبول بالمختلف والتي باتت تطرح بقوّة في عصرنا الراهن، إلى ما خطّه مواطنه الفيلسوف الإنكليزي جون لوك سنة 1689 وهو”رسالة في التسامح” التي يعتبرها الدارسون فتحا مهمّا وحجر زاوية، ويرجع له الفضل في بلورة الأفكار التي ساهمت في تأسيس مفهوم الدولة المدنية الحديثة في أوروبا، والقائم على مبدأ الفصل الحاسم بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية.
ساهمت رسالة جون لوك منذ ثلاثة قرون في مجيء واستقرار أسرة صادق خان من باكستان إلى أشهر عواصم التنوّع الثقافي والعرقي في العالم، ومكّنته عبر أفكار مؤلفها التي تجسّدت واقعا وسلوكا وقوانين من مشروعية الحلم في الديمقراطيات العريقة وإمكانية تحقيقه، دون أن يغيّر الإنسان رأسه أو جلده أو يمشي عكس السير.. السير الإنكليزي الذي خبره والده جيّدا وهو يسوق الحافلة في شوارع لندن.
صار صادق خان المحامي يشرف على وضع الخطط ورسم السياسات لمدينة يؤمّها 8.5 مليون ليلا ويدخلها قرابة 3 ملايين نهارا كما يمثّلها في الداخل والخارج ويدير ميزانيتها التي تقدّر بـ14 مليار جنيه إسترليني، إلى جانب صلاحيات كثيرة أخرى تجعله في الصفوف الأولى لأصحاب القرار في المملكة المتحدة.
الأمر الذي جعل من فوز صادق خان حدثا تتردّد أصداؤه في عواصم القرار ويتلقّاه العالم العربي والإسلامي بارتياح شديد، هو كونه أوّل مسلم يفوز بهذا المنصب في العاصمة البريطانية، ممّا أعاد تحريك سؤال الإسلاموفوبيا وحقيقة ما يقال ويكتب عن هذا الرهاب الذي ما تنفكّ أقلام عربية كثيرة تدلي بدلوها فيه وتصوّره على أنه واقع ملموس وحقيقة دامغة يعاني منها المسلمون في أوروبا وتزداد حدّتها لتزيد من الهوّة وتجعل التواصل متعثّرا.
لعلّ أكثر ما يخلخل ويهزّ هذا الاعتقاد لدى غلاة القائلين بالإسلاموفوبيا هو كون صادق خان مسلم العقيدة والسلوك، فهو يتمسّك بشعائر الدين الإسلامي ويطبّقها في حياته الشخصيّة وفق تقارير تحدّثت عن هذه الجزئيات، كالتزامه بالصلاة والصوم وعدم شرب الكحول، وكذلك النشاط الاجتماعي والحقوقي مع جمعيات مسلمة داخل العاصمة البريطانية، على عكس صورة السياسي المسلم في بلاد أوروبية أخرى كفرنسا مثلا، والذي لا تتجاوز صفة المسلم لديه أكثر ما يحيل إليه اسمه أو هوية البلد الذي هاجرت منه عائلته.
بين جون لوك وصادق خان، ثلاثة قرون من التراكمات المعرفية أفضت إلى تشريعات متطوّرة وأسست لثقافة التسامح
لم يتوقّف الأمر عند هذا السلوك العادي في شخص مواطن بريطاني اسمه صادق خان، هذا السلوك الذي تضعه كل القوانين الأوروبية في خانة الحرية الفردية والحق في ممارسة المعتقد، بل تجاوزه إلى انتشار شبهات واتهامات تحوم حوله في الضلوع، وبشكل غير مباشر، في خطة إرهابية مزعومة، إضافة إلى تعامله مع جماعات متطرّفة تحت رايات وشعارات سوداء، تثير مجرّد مشاهدتها التوجّس والرّهاب في نفس كل بريطاني، خصوصا وأنه قد عانى من هولها في هجمات لندن، لكنّ جهاز المخابرات البريطانية الداخلي قد سبق له أن حقّق معه بشكل روتيني وانتهى إلى أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد إشاعات يروّج لها خصومه السياسيون، وقد أجريت في هذا الشأن تحقيقات كثيرة مع مئات الآخرين.
عزّز فوز صادق خان مفهوم ثقافة التسامح كواقع معيش، يطرد كوابيس الإسلاموفوبيا ويضعفها كأسلحة يستخدمها غلاة الطرفين، الطرف المسلم الذي يصوّر نفسه كقابض على الجمر وضحية للمظلومية من جهة، والطرف اليميني الأوروبي الذي يتخذها ذريعة للقول باستحالة الحوار والتعايش مع ثقافة تتسم بالعدوانية ولا يمكن أن تتجانس مع مجتمعاتنا. ولعلّ هذا ما جعل صادق خان يرد على تصريحات دونالد ترامب التي قال فيها إنه “قد يستثني العمدة المسلم الجديد من القرار ليسمح له بالدخول رغم ديانته” بقوله “إنّ وجهة نظر دونالد ترامب التي تتسم بالجهل حول الإسلام يمكن أن تجعل بلدينا أقل أمنا، فهي تهمّش التيار الجارف من المسلمين حول العالم، وهو ما يصب في النهاية في صالح المتطرفين”، حسب ما نقلته النسخة البريطانية لـ”هافينغتون بوست”.
بين جون لوك ومواطنه صادق خان، ثلاثة قرون من التراكمات المعرفية والصراعات والتجاذبات أفضت بدورها إلى تشريعات متطوّرة وأسّست لثقافة التعالي عن الاختلافات العرقية والدينية التي تتضاءل أمام مستحقات الحياة وحاجات المجتمعات، وهذا ما جعل المجتمع اللندني يختار صادق خان مذكّرين بما كتبه جون لوك حول أن ليس للحاكم المدني أن يمنع من استعمال أي شعائر أو مراسم مقررة، ويؤكد أن حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان وأن لكل فرد السلطة العليا والمطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين والعقيدة.
حكيم مرزوقي
صحيفة العرب اللندنية