في الوقت الذي تظهر فيه العديد من الكتابات لتقييم مدي قوة الولايات المتحدة الصلبة والناعمة في العصر الحالي، والتي تعكس انقسام المحللين بين مدافعين عن فكرة استمرار الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي،ومروجين لأطروحة التراجع الأمريكي، يناقش براين إدواردز في هذا الكتاب البعد الثقافي للقوة الأمريكية،وما شهده من تغيرات نتيجة للتطورات التكنولوجية المتسارعة.
يدور الكتاب حول أطروحة أساسية،مفادها أن الدور الذي تلعبه الثقافة في القرن الحادي والعشرين قد ترتب عليه الدخول في مرحلة أطلق عليها الكاتب “ما بعد القرن الأمريكي”، تغيرت فيها العلاقة التقليدية التي كانت تربط الثقافة الأمريكية واسعة الانتشار بالمصالح السياسية للولايات المتحدة. إذ يلقي الكاتب الضوء على المفارقة التي تواجهها الولايات المتحدة حاليا،والمتمثلة في تراجع موقعها المهيمن على النظام الدولي اقتصاديا وسياسيا،في الوقت الذي لا تزال فيه منتجاتها الثقافية منتشرة في كل مكان حول العالم.
ويركز الكاتب بالأساس على منطقة الشرق الأوسط، وتحديدا مصر،والمغرب،وإيران، وهي الدول التي قام بزيارتها عدة مرات،وأجري بها عددا من الأبحاث التي بناء عليها شرع في تأليف هذا الكتاب. إذ يري إدواردز أن القوي الاجتماعية المختلفة في هذه الدول استطاعت أن تدمج المنتجات الثقافية الأمريكية في السياق الداخلي،وتغلفها بالطابع المحلي، ومن ثم قطعت الصلة بينها وبين جذورها الأمريكية،وهو ما ترتب عليه انتهاء تأثيراتها الإيجابية في مصالح الولايات المتحدة،أو تحسين صورتها لدي هذه الشعوب.
تحديات الدبلوماسية الثقافية الأمريكية:
يشير إدواردز إلي أن الدبلوماسية الثقافية الأمريكية شهدت تطورات عدة في السنوات الماضية،وتحديدا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001،وما تبعها منغزو أفغانستان والعراق،وهو ما أثر بشكل كبير في صورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فلقد باتت شعوب المنطقة تتشكك في نيات الولايات المتحدة، خاصة في ظل تطور الخطاب العنصري المعادي للإسلام والمسلمين بعد2001الذي لم يعد من الممكن مواجهته فقط بالإنتاج الثقافي الأمريكي. ولقد اتضح تراجع التأثير الثقافي للولايات المتحدة،من وجهة نظرة الكاتب،في الموجات الثورية التي اجتاحت العالم العربي في2011،والتي لم تعلن فيها القوي الثورية تبنيها للقيم الأمريكية،وعدّالولايات المتحدة نموذجا ملهما لها.
واستشهد الكاتب على ذلك بالإشارة إلي فيلم براءة المسلمينInnocence of Muslims معادٍللإسلام، وهو فيلم أمريكي النشأة، انتشر على موقع اليوتيوب في عام2012،وأثارغضب المسلمين حول العالم. فعلى الرغم من ضآلة ميزانية إنتاج هذا الفيلم،وتدني مستوي جودته،فإنه استطاع أن يمحو سنوات من النشاط الثقافي الذي قامت به وزارة الخارجية الأمريكية لإقناع المسلمين حول العالم بأن الولايات المتحدة متسامحة مع الدين الإسلامي. ومع أن الفيلم قد ظهر بالأساس على موقع اليوتيوب، وهو موقع أمريكي،ويعد من أحد المنتجات الثقافية الأمريكية التي تهدف لتشجيع المواطنين حول العالم على حرية التعبير، فإن ذلك لم يسهم في تقليل مشاعر الغضب ضد الولايات المتحدة،والتي ظهرت في صورة احتجاجات ومظاهرات أمام السفارات الأمريكية في عدد من الدول الإسلامية.
واستنادا إلي المثال السابق،يوضح المؤلف التغيير الحادث في الدبلوماسية الثقافية الأمريكية. فانتشار المنتجات الثقافية لم يعد هو معيار التأثير، وإنما البيئة التي يظهر فيها هذا الانتشار،وقدرة الفاعلين فيها على الربط ما بين هذه المنتجات والبلد المصدر لها، وهي أبعاد مرتبطة بالأساس بموقف تلك القوي من الولايات المتحدة وسياساتها.
الأعمال الأدبية المصرية وتأثير السياق:
انتقد الكاتب تركيز الإعلام الغربي والأمريكي على دور شبكات التواصل الاجتماعي كأداة لتنظيم المظاهرات التي بدأت في مصر يوم25يناير2011،ورؤية البعض أن هذه الأدوات التي طورتها الولايات المتحدة قد ساعدت على تأجيج ثورة شبابية تهدف للتغيير. ففي رأيه، كانت هناك مبالغة من قبل الإعلام الأمريكي في ربط شبكات التواصل الاجتماعي بجذورها الأمريكية، وفي تقييم تأثيرها في القوي الثورية في مصر. فعلى الرغم من أن هذه الوسائط قد لعبت دورا حقيقيا في الثورة،فإن القوي الثورية لم تنظر إليها بحسبانها وسائط “أمريكية”،ولم ينعكس استخدامها لها على رؤية إيجابية لموقف وسياسات الولايات المتحدة تجاه النظام السياسي المصري.
كما أشار الكاتب أيضا إليغياب الاهتمام الغربي بالأعمال الأدبية التي نشرها كتاب مصريون،ومثَّل بعضها محركا لاحتجاجات25يناير،والتي تؤكد أن تزايد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي،والأدوات التكنولوجية لم يعكس بالضرورة رؤية إيجابية للسياسة أو القيم الأمريكية. وفي هذا الإطار، عرض الكاتب لعدد من كتابات عمر طاهر، ومجدي الشافعي، وعلاء الأسواني، وغيرهم من الكتاب الذين استطاعوا في رأيه أن يدمجوا ما بين أبعاد الثقافة الغربية في كتاباتهم،وفي رسمهم لصورة المدينة،وما شهدته من تطورات،ولكن بطابع مصري نابع من السياق الداخلي، ولذا يصعب ترجمتها أو فهمها في المجتمعات الغربية.
صناعة الأفلام والعلاقات الأمريكية – الإيرانية:
ناقش إدواردز تأثير صناعة الأفلام في العلاقات الأمريكية – الإيرانية،وأن أهداف صناع الأفلام في الولايات المتحدة قد لا تتحقق فعليا،وفقا لخصائص السياق الذي تنتشر فيه هذه الأفلام. فعلى سبيل المثال، بعد حصول فيلم إيراني على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم بلغة أجنبية في عام2012، وما لاقاه ذلك من ترحيب داخل إيران،وكذلك في الولايات المتحدة، أثار حصول الفيلم الأمريكي الذي يدور حول أزمة الرهائن،إبان الثورة الإيرانية،والمعروف بأرجوArgoفي 2013،على جائزة الأوسكارغضبا شعبيا كبيرا في الداخل الإيراني.
فلقد نظر لهذا الفيلم في الولايات المتحدة على أنه معالجة جديدة لأزمة الرهائن في السينما،وأنه يركز على أهمية الحلولغير العسكرية للصراع الأمريكي – الإيراني. وأشار المؤلف إلي تصور صناع الفيلم أنه قد يلاقي قبولا واسعا خارج إطار المجتمع الأمريكي. ولكن على العكس من ذلك، رأي الإيرانيون أن الفيلم معاد لإيران،ويعكس ما أطلقوا عليه الفوبيا الأمريكية من إيرانIranophobia،وأنه مدعوم من الحكومة الأمريكية في إطار ما سموه “صهيونية هوليود”. وبالتالي، لم يعد انتشار الأفلام الأمريكية وحده كافيا لتعزيز القوة الأمريكية، بل بات السياق المحلي الذي تنشر فيه المنتجات الثقافية الأمريكية حاكما ومقيدا لتأثيراتها الإيجابية، بل قد يصل الأمر إلي الإضرار بالمصالح الأمريكية التي تهدف هذه المنتجات إلي تدعيمها.
المغرب بين ثقافة أمريكا وسياستها:
شهد المغرب تغيرات اجتماعية عدة في العقد الماضي،كان أبرزها وصول الملك محمد السادس إلي الحكم في سن صغيرة بعد أربعة عقود من حكم والده، وانتشار التكنولوجيا الرقمية بشكل كبير، وهو ما دفع البعض في الغرب للحديث عما سموه “دولة المغرب الجديدة”. ولكن الكاتب يري أن من الخطأ النظر إلي هذه التطورات في الولايات المتحدة على أنها تدفع المغرب بالضرورة إلي تبني القيم الغربية،أو مواقف مؤيدة للولايات المتحدة. فعلى العكس من ذلك، يري أن سياسات الولايات المتحدة،خلال فترة التحول هذه،لم تكن تحظي بأي تأييد في المجتمع المغربي. فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي كانت فيه المنتجات الثقافية الأمريكية من أفلام وأغان وغيرها منتشرة بشكل كبير في المجتمع المغربي، لم يمنع ذلك من الانتقادات التي وجهت إلي الولايات المتحدة في المغرب،بعدغزو للعراق.
يؤكد هذا التناقض أطروحة الكاتب المتمثلة في أن المنتجات الثقافية الأمريكية يتم فصلها عن منشئها،وتأطيرها في السياق المحلي،بحيث تنبت الصلة بينها وبين الولايات المتحدة تماما، وتكون أقرب إلي الثقافة الداخلية، ومن ثم تفقد قدرتها على تدعيم المصالح الأمريكية.
المؤلف: براين إدواردز
عرض: نوران شفيق
مجلة السياسة الدولية