لم يتعرض إرث اتفاقية سايكس-بيكو السرية عام 1916 لهجوم مثل ما يتعرض له الآن، مع حلول الذكرى المئوية لتوقيعها وسط عاصفة من التشويه في جميع أنحاء المنطقة.
وبينما يتجه العراق إلى مرحلة أعمق من الاضطرابات والتفكك، يواصل زعماء الأكراد في الشمال الذي يتمتع بحكم ذاتي فعلي تهديدهم بالانفصال وإعلان الاستقلال الكامل.
وأعلن مسلحو ما يُطلق عليه تنظيم الدولة الإسلامية، الذين أزالوا الحدود بين العراق وسوريا في يونيو/ حزيران عام 2014، نيتهم محو جميع حدود المنطقة، وإلغاء سايكس-بيكو إلى الأبد.وأيا ما كان مصير “الدولة الإسلامية”، فإن مسقبل سوريا والعراق – وهما جزء رئيسي من مشروع سايكس-بيكو- كدولتين موحدتين بات أمرا غامضا.
وفي الحقيقة، لم ترسم تقريبا أي من الحدود الموجودة حاليا في الشرق الأوسط في الوثيقة التي أبرمت في 16 مايو/ آيار عام 1916 على يد كلٍ من مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو.
وتبعد النقطة الحدودية بين العراق وسوريا التي أزالها تنظيم الدولة في مشهد تمثيلي مئات الكيلومترات من “الخط الرملي” الشهير الذي رسّمه سايكس وبيكو، والذي يمتد مباشرة تقريبا من الحدود الإيرانية في الشمال الشرقي حتى الموصل وكركوك ليعبر الصحراء باتجاه البحر المتوسط، لينحرف في اتجاه الشمال إلى حقلة فوق نهاية حدود فلسطين.
وشكلت الحدود الراهنة للمنطقة من خلال عملية طويلة ومعقدة من الاتفاقيات والمؤتمرات والصفقات والصراعات التي تلت تفكك الإمبراطورية العثمانية وفي أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى.
غير أن روح سايكس-بيكو، التي سيطرت عليها مصالح القوتين الاستعماريتين الرئيسيتين المتنافستين وطموحاتهما القاسية، هيمنت خلال تلك العملية وخلال العقود اللاحقة حتى أزمة قناة السويس عام 1956 وحتى فترة تالية.
الفرصة الكردية؟
ونظرا لأنها دشّنت تلك الفترة وجسّدت مفهوم التقسيم الاستعماري السري، باتت سايكس-بيكو شعار المرحلة بأكملها، إذ فرضت فيها القوى الخارجية إرادتها، ورسمت الحدود، ونصبت زعامات محلية موالية، ومارست سياسات فرق-تسد مع السكان الأصليين وإفقار الجيران مع الخصوم من الاستعماريين.
ويشهد النظام الناتج عن ذلك وورثه الشرق الأوسط في الوقت الحالي تنوعا من البلدان وضعت حدودها استنادا إلى القليل من الاعتبارات العرقية والقبلية والدينية أو اللغوية.
ومع وجود مزيج من الأقليات، كانت هناك في الغالب نزعة طبيعية لمثل تلك الدول للتفكك ما لم يحكمها رجل قوي بقبضة حديدية أو حكومة مركزية قوية.
ومن المفارقة أن كلا الطرفين القويين اللذين يعاديان إرث سايكس-بيكو صراحة في نزاع محتدم: مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية والأكراد في شمال العراق وسوريا.
وفي البلدين، أثبت الأكراد أنهم أكثر حلفاء الائتلاف الغربي فعالية في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، على الرغم من أنهما يشتركان في الإصرار على إعادة ترسيم الخريطة.
وقال رئيس إقليم كردستان العراقي، مسعود بارزاني، الذي يتمتع بحكم ذاتي، في مقابلة مع بي بي سي: “ليس وحدي من يقول بذلك، ففي الحقيقة إن سايكس-بيكو فشلت وانتهت.”
وأضاف أن “هناك حاجة إلى تشكيل جديد للمنطقة. أنا متفائل للغاية بأنه من خلال ذلك التشكيل الجديد سيحقق الأكراد مطلبهم التاريخي وحقهم (في الاستقلال)”.
وتابع: “مررنا بتجربة مريرة منذ تشكيل العراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى. حاولنا الحفاظ على وحدة العراق، لكننا غير مسؤولين عن تفككها – الآخرون هم الذين فككوها.”
وقال “إننا لا نريد أن نكون جزءا من الفوضى والمشاكل التي تحيط بالعراق من جميع الجهات”.
كيان له حدود
وقال بارزاني إن الدافع وراء الاستقلال جاد للغاية، وإن تلك الاستعدادات تمضي قدما بكل قوة.
وأضاف أن الخطوة الأولى تجب أن تكون “مفاوضات جادة” مع الحكومة المركزية في بغداد للتوصل إلى تفاهم وحل باتجاه ما يطلق عليه القادة الأكراد “الانفصال الودي”.
وإذا لم يسفر ذلك عن نتائج، كما يقول بارزاني، يتعين على الأكراد المضي قدما بصورة آحادية بإجراء استفتاء حول الاستقلال.
وأضاف: “إنها خطوة ضرورية، لأن كل المحاولات والتجارب السابقة فشلت. وإذا لم تساعد الظروف الحالية في تحقيق الاستقلال، فليست هناك ظروف تمنع من طلب هذا الحق.”
وتعد المناطق الكردية في العراق مناطق غير ساحلية، يحيط بها جيرانها من جميع الجهات – سوريا وتركيا وإيران والعراق نفسه – الذي طالما رفض التطلعات الكردية.
وتحت تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، بات الأكراد أكثر اعتمادا على الإطلاق على القوى الغربية التي تنصحها بقوة كذلك بالبقاء كجزء من العراق.
وسواء أحقق أكراد العراق أم لم يحققوا استقلالا كاملا بشكل رسمي في المستقبل القريب، فإنهم أسسوا بالفعل كيانا له حدوده وعلمه ومطاراته الدولية وبرلمانه وحكومته وقوات أمنه الخاصة – كل شيء عدا جواز السفر والعملة.
وإلى ذلك الحد، فقد أعادوا بالفعل ترسيم الخريطة. وفي الجوار، يقوم أقرانهم من أكراد سوريا بالشيء نفسه، من خلال السيطرة وإدارة قطاعات شاسعة من الأراضي على طول الحدود التركية تحت مسمى “الإدارة الذاتية”.
إعادة ترسيم المستقبل
وبالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية، فإن مكاسبها الإقليمية بلغت ذروتها. غير أن الفوضى في كل من العراق وسوريا التي سمحت لها بالتجذر إلى هذا الحد لا تزال مستمرة، وهو تهميش الأقلية العربية السنية في العراق (والأكراد) والتفكك السوري في حرب أهلية طائفية دون نهاية.
ويدور صراع غير معلن بشأن إمكانية التوصل إلى صيغ لمجتمعات مختلفة للعيش معا داخل حدود ورّثها تاريخ يعود إلى القرن العشرين، أو ضرورة ترسيم حدود جديدة لاستيعاب أولئك الشعوب – على الرغم من أن هذا المفهوم جرى تحديده.
“سايكس-بيكو انتهت، وذلك أمر مؤكد، لكن كل شيء الآن غامض، وسيكون هناك وقت طويل قبل أن يتضح ما هي النتائج”، هذا ما قاله الزعيم الدرزي اللبناني المخضرم، وليد جنبلاط.
وتعارضت اتفاقية سايكس-بيكو مباشرة مع ضمانات الحرية التي وعد بها البريطانيون للعرب مقابل دعمهم ضد الدولة العثمانية الضعيفة.
وتصطدم كذلك الاتفاقية مع رؤية الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون (وهو الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 1913 إلى 4 مارس 1921)، الذي دعا إلى تقرير مصير الشعوب التي أخضعتها الإمبراطورية العثمانية لسيطرتها.
وأخبر مستشاره السياسي، إدوراد هاوس، في وقت لاحق بالاتفاقية، على لسان وزير الخارجية البريطاني، أرثر بلفور، الذي قدر بأن يوضع اسمه بعد مرور 18 شهرا على اتفاق كان له تأثير كبير في مصير المنطقة.
وقال هاوس: “كل شيء سيء وقلت لبلفور ذلك. إنهم يجعلونها (المنطقة) مكانا خصبا لحروب المستقبل.”
جيم موير
بي بي سي العربية