وبادئ ذي بدء، فإن القضية الجنوبية هي قضية عادلة، ومأساة اليمنيين في جنوب اليمن بعد حرب صيف 1994 هي مأساة حقيقية لا يجحدها إلا مكابر غير منصف. ولكن، والأسئلة التي ستطرح موجهة تحديداً لأهل الجنوب اليمني: هل بدأت أزمة جنوب اليمن مع الوحدة، أم أنها سابقة لها وتراكمية، وكانت حرب الانفصال هي أوج انفجار كل الأزمات الجنوبية؟ وهل تعيش بقية محافظات اليمن، وبقية الشعب اليمني في حال أفضل من حال اليمنيين في جنوب اليمن، أم أن الفقر والتهميش والاغتيالات المنظمة وتجريف الثروات قد طالت كل المحافظات وكل الشعب من دون استثناء؟
لفهم القضية الجنوبية، بعيداً عن المزايدات السياسية، يحتاج الأمر لتبصر عميق في تاريخ جنوب اليمن الحديث، حيث لم يكن موحداً في الأصل فترة الاستعمار، فكان الجنوب يتكون من مستعمرة عدن التي جلب البريطانيون لها مئات الآلاف من جنسيات متعددة جعلت العرب اليمنيين أقلية شحيحة سنوات طويلة من حكم البريطانيين. وإلى جانب مستعمرة عدن كانت هناك أربع عشرة مشيخة تمكن الإنجليز من توحيدها مع عدن سنة 1962 في ما سمي باتحاد الجنوب العربي الذي سقط عام 1967 مع الاستقلال عن الإنجليز، وتأسيس اليمن الشعبية الديمقراطية.
وهذه بعض ملامح المعضلة الجنوبية في الحديث عن الوحدة. إن توحد جنوب اليمن جغرافياً وسياسياً هو توحد حديث في حد ذاته.
حافظ النظام الماركسي الذي حكم اليمن الجنوبي بعد الاستقلال على بعض معطيات التحديث التي بدأها الاستعمار الإنجليزي لتسهيل حياة أفراده، وليس لأهل المستعمرة من اليمنيين والمستجلبين من الخارج. ولكن الحكام الماركسيين لليمن انشغلوا بخلافاتهم أكثر مما انشغلوا ببناء البلاد. وكغيرهم من رومانسيي الحقبة الماضية، لهثوا وراء الشعارات اليسارية وانخرطوا في نزقها أكثر مما انخرطوا في الالتحام مع الواقع اليمني. وكانت النكبة الجنوبية الكبرى التي لم يشهد لها تاريخ اليمن المعاصر مثيلاً لحد الآن هي نكبة 1986م، التي تقاتلت فيها التيارات الحاكمة لليمن الجنوبي وكبدوا جنوب اليمن في أيام معدودة ما يزيد على عشرة آلاف قتيل من خيرة الكفاءات والخبرات اليمنية. فكانت تلك الحرب أكبر عملية تدمير وتجريف للدولة الجنوبية التي كانت في الأساس في بنية تحتية متهالكة تعود بفضل وجودها، في أغلب الأحيان، للإنجاز البريطاني لا للحكم الاشتراكي. وأدى كل ذلك، إضافة إلى سقوط النظام السوفييتي، الراعي الرسمي الأول لجنوب اليمن الاشتراكي؛ إلى هروب الرئيس السابق علي سالم البيض إلى الأمام سريعاً لإعلان الوحدة مع شمال اليمن عام 1990، الذي كان برغم كل مآسيه الاجتماعية والتنموية يعيش استقراراً أفضل نسبياً عن جنوب اليمن.
ولم ينعم الجنوبيون كثيراً أو طويلاً بمزايا الوحدة اليمنية. فقد حول نظام علي عبدالله صالح جنوب اليمن إلى خزان ثروة يستنزفه مع بقية المتنفذين في نظامه. وكان لحزب الإصلاح الإخواني دور كبير في إذكاء الفتنة الناعسة، غير النائمة، بين أركان الحكم الجنوبي والشمالي الذي لم يتحد في الأساس. فحزب الإصلاح كان رافضاً لمبدأ الوحدة بين الشطرين، فضلاً عن تفتيته للمكونات اليمنية في الشمال ومحاربته كل تياراته اليسارية والتقدمية. ومن ثم اشتعلت حرب 1994م التي بموجب النصر الشمالي على الجنوب ترك علي عبدالله صالح شعب جنوب اليمن نهباً لحزب الإصلاح الإخواني، وتحالفاته السلفية التي سحقت كل ما تبقى من الإرث البريطاني التحديثي.
هذا موجز مختصر جداً للقضية الجنوبية التي تتكامل في مأساتها مع قضايا اليمن الأخرى. وفي متابعاتي المتواضعة لأطروحات الانفصال الجنوبي، أو استعادة دولة الجنوب اليمنية، أو دولة الجنوب العربي التي شكّلها الاستعمار البريطاني، لم أجد لحد الآن طرحاً منهجياً أو مشروعاً واضحاً لبناء دولة في الجنوب تجنبه الدخول مجدداً في مآسي الماضي. جميع الأطروحات التي اطلعت عليها تقف عند حدود التشطير الجغرافي فقط، ثم تغيب في ضباب المستقبل. وهو ما ينذر بمستقبل مرعب لجنوب اليمن. حيث إن أغلب القيادات الجنوبية الاشتراكية لم تعد مقبولة حالياً. والقيادات الجديدة داخل جنوب اليمن تفتقد للتاريخ والإنجاز والكاريزما. فأغلبها شخصيات طارئة قفزت على شح الكوادر البشرية في الجنوب، وأعلنت نفسها زعامات. وهذا ما يفسر إصرار دول التحالف، وتحديداً دول الخليج العربي، على إبقاء اليمن موحداً برغم احترامها لحق الشعب الجنوبي. فليس ثمة مشروع حقيقي لدولة ناجحة في الجنوب يمكن أن تعول عليه دول التحالف لتدعم المشاريع الانفصالية المتعددة التي تطرحها فصائل يمنية جنوبية متعددة.
إن فكرة انفصال جنوب اليمن في ظل التحديات الخطرة والكثيرة التي تواجه شعب الجنوب، لم تعد مفهومة في ظل سقوط النظام الاشتراكي، ونظام علي عبدالله صالح، وسقوط هيمنة التنظيم الإخواني الذي كان العدو الأكبر لدولة الجنوب بيساريتها وتحررها. فهؤلاء هم كانوا صانعي القضية الجنوبية المتأزمة. بل كل القضايا اليمنية المتأزمة. وهذا ما يطرح السؤال حول الفلسفة التي تنطلق منها دعوات الانفصال التي بدأت تأخذ طابع التمييز العرقي والمذهبي ضد سكان شمال اليمن. الأمر الذي يمكن أن يدخل الجنوب في أزمات ارتدادية خطرة، لأن الديمغرافيا الجنوبية تتميز بتعدد الأعراق العربية وغير العربية، من آسيوية وإفريقية، وهو ما يميز الهوية الجنوبية دون الهوية الشمالية التي يقل فيها تعدد الأعراق بشكل واضح.
القضية الجنوبية قضية عادلة، وشعب الجنوب تعرض لظلم ممنهج لعقود طويلة. ولكن في ظل تفجر الأزمات في اليمن كلها، ودخول الحوثيين في الشمال على خط الأزمات، هل من الحكمة مناقشة القضايا اليمنية برؤية مناطقية؟ أليس ذلك امتداداً لمشروع الربيع العربي التفتيتي؟ وهل ولدت تيارات جنوبية جديدة تبحث عن مشروعها الفردي وأمجادها الشخصية لتستعيد جنوب اليمن رهينة تستنزف موارده وتهمش أفراده وتعيد إنتاج تاريخ المتاجرة بالشعارات والسقوط في الصراعات الداخلية؟ هذا ما لا نتمناه.
د.انتصار البناء
صحيفة الخليج