عندما يدخل قائد القيادة العسكرية المشتركة في الجيش الأميركي بالشمال السوريّ ويلتقي بالفريق الاستشاري الأميركي المدرّب للبعض من الميليشيات المقاتلة، التابعة إمّا لكردستان سوريا أو المؤيدة لها تحت عنوان قوات سوريا الديمقراطيّة، دون تحفّظ روسيّ وبلا رفض سوري عال معتاد في مثل هذه الحالات، فهذا الأمر يستدعي التوقّف مليا والنظر بكلّ تبصّر إلى حيثيات وملابسات الأحداث في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط ككلّ.
من الواضح أنّ العنوان الأبرز للتدخل الأميركي المباشر وغير المباشر في شمال سوريا والمتدثّر بغطاء “تحرير الرقّة” من داعش، يستوعب المشهد الحالي من حيث تقاطع كافة اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين على هذه النقطة المرحليّة المشتركة بين الجميع ما عدا تركيا.
ودون تكرار لذات المقولات التفسيرية التي سقناها سابقا حول استحالة تحول سوريا من لاعب إقليمي جوهريّ إلى ملعب لكافة اللاعبين الإقليميين والدوليين، فإنّ مشهد تأييد موسكو وصمت دمشق لدخول الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية بالجيش الأميركي، لمناطق كرديّة سورية ولقاءه بقادة عسكرييّن أميركيين وأكراد في المنطقة يشير إلى “تقاسم أدوار” مفصليّ بين موسكو وواشنطن لقتال التنظيمات التكفيرية ولتحديد الخطوط العريضة لمستقبل سوريا.
دعوة موسكو وواشنطن المشتركة إلى الجماعات المسلحة في سوريا للتمايز عن “النصرة” و”داعش” كانت الرسالة العمليّة والمباشرة بأنّ الطرفين سيبدآن في تسوية تاريخية بالشام تقوم على الحسم العسكري والسياسي سويّة.
ولئن كان لموسكو اليوم الإشراف الفعليّ على العملية السياسية والعسكرية حيث أصبحت قاعدة حميميم نقطة انطلاق أي فعل عسكريّ ونقطة ارتكاز أيّ تسوية سياسيّة مع المعارضة، فإنّ لواشنطن اليوم اليد العليا على مجموعة كبيرة من الفصائل المسلحة التي تضم نحو 12 ألف مقاتل، قد أشرف المستشارون الأميركان على تدريبهم، وهؤلاء المقاتلون يمثلون العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية وللبيشمركة السوريّة. توزيع الأدوار العسكريّة يتجسّد في الورقة البيضاء الأميركية لروسيا لتحرير “تدمر” من داعش، وفي ذات الورقة البيضاء الروسيّة لأميركا لتحرير “الرقّة” دون أيّ مهاترات عن ضرورة التنسيق مع “الفاعل الرسمي” في دمشق، أو حديث عن ضحايا مدنيين سقطوا على هوامش القصف والغارات. وكما كان الميدان رقعة شطرنج لتوزيع الأدوار، فإنّ مستقبل البلاد، مجسّدا في الدستور، يمثّل اليوم وعاء للتوافقات الأميركية الروسيّة حيث تحضر الإرادة الدوليّة والإسقاطات العالميّة والتمثلات الأجنبية في نصّ تشريعي، يُعرف بأنّه “التعبير” الأرقى عن حريّة الشعوب المستقلة.
اليوم، تتفق موسكو وواشنطن على مجموعة من الإملاءات الدستوريّة القائمة على مأسسة المحاصصة الطائفيّة والهوياتيّة، بما يعنيه هذا الأمر من ردّة سياسية ومدنية لسوريا ستعيدها إلى ما قبل الدولة من حيث غلبة “العلاقات الوشائجيّة” -الطائفية والإثنية والعشائريّة والمذهبية- على العلاقات التعاقدية المدنية صلب الدولة والمواطنة.
النسخة الأوليّة من دستور كيري لافروف -وهو نسخة شبه مترجمة عن دستور بول بريمر في العراق- تتحدّث عن صلاحيات واسعة لـ”جمعيّة المناطق” أي نظام الأقاليم وعلى رأسها كردستان سوريا، إضافة إلى انتزاع أيّ مصطلح عربي من نصوص الدستور سواء من حيث تحويل التسمية من “الجمهورية العربية السورية” إلى “الجمهورية السورية” أو من حيث نصّ القَسم الدستوريّ.
النسخة الأوليّة لا تقف عند هذا الأمر بل تحتوي على مواد تنصّ بصريح العبارة على تمثيل الأطياف الطائفية والقومية و”حجز مناصب” للأقليات، أليست من المفارقة أن تحضر “القوميّة” عند نعت الأقليات، وتغيب عند الإشارة إلى الدول والأوطان.
أمّا الرئيس -وهو المنصب الذي عليه قامت كلّ هذه المآسي في سوريا سواء من حيث تنطّع المعارضة أو عناد النظام- فالدستور الجديد يحافظ على الهيكل ويسحب الصلاحيّة، إذ تستحيل الرئاسة السورية مجرّد “ساعي بريد” بين حكومة “المحاصصة” والشعب.
وكما أسّس دستور بول بريمر للطائفية القاتلة للمواطنة، ولدولة الطوائف المقوّضة لدولة ما فوق الطوائف، فإنّ دستور كيري ولافروف سيكون دستور الحرب والاحتراب، حيث سيعجز عن إنهاء مكاسرة السوريين وعن كسر سوريا، بل سيزيد من مشهد الدولة الفاشلة وفشل الدولة.
أمين بن مسعود
صحيفة العرب اللندنية