لدى استعراض حطام الشرق الأوسط والتحلل الذي يعتري أوروبا، سوف يريدنا الرئيس أوباما –لأسباب مفهومة- أن نعتقد بأن أي سياسة أخرى لم تكن لتعمل بشكل أفضل.
لقد جربت الولايات المتحدة كل تلك السياسات الأخرى، كما تقول إدارته: الغزو الهائل في العراق؛ والتدخل الجراحي في ليبيا؛ والانطواء المدروس على الذات في سورية. وقد أسفرت هذه كلها عن نفس النتيجة: الفوضى والدمار.
وإذن، لماذا نتكلف العناء؟ ولماذا نسمح بأن يتم جذبنا إلى داخل عملية “تحول سيظل يتكشف على مدى جيل كامل”، كما وصفه أوباما في خطابه عن حالة الاتحاد هذا العام، “والمتجذر في صراعات تعود إلى آلاف السنين”؟
حتى مع وضع الإساءة التي ينطوي عليها هذا الازدراء بالإمكانات العربية جانباً، فإن هذه الصيغة تظل خاطئة، لسببين، واحد تأسيسي والآخر تحليلي.
إن هذه الصيغة لا تعرض أي مسار معقول لخليفة أوباما –الذي لن يستطيع أن يتجاهل المنطقة، كما تُظهر إعادة تصعيد أوباما المترددة والمتقطعة للانخراط، وإنما ستستدعي بدلاً من ذلك نوع الوعود الغوغائية التي سمعناها خلال الحملة، بـ”القصف الشامل” للمتشددين الإسلاميين حتى نعرف ما إذا كانت “الرمال يمكن أن تتوهج في الظلام”، كما هدد السناتور تيد كروز (الجمهوري عن تكساس)، أو بكلمات دونالد ترامب: بسرعة، اضربوا الدولة الإسلامية بشدة، ثم “عودوا إلى هنا لإعادة بناء بلدنا”.
لكن الأهم من ذلك هو أن قدَرية الادارة تتجاهل خياراً سياسياً رابعاً كان أوباما مصمماً على عدم محاولته منذ البداية: الانخراط الصبور ومفتوح النهاية، باستخدام كافة الأدوات الأميركية -الدبلوماسية والعسكرية- بحيث يكون تحقيق نتيجة إيجابية، وليس الوفاء بموعد نهائي ثابت، ليكون هو الهدف.
وهو نهج عمل من قبل. ففي كوريا، صنعت الولايات المتحدة تحالفاً حميماً منذ أكثر من نصف قرن، وما يزال جنود الولايات المتحدة ودبلوماسيوها موجودين هناك اليوم. وقد ردع دعم الولايات المتحدة عدواً خارجياً في حين ساعد باستمرار مجتمعاً مزقته الحرب الأهلية بينما يقوم شعبه ببناء الديمقراطية تدريجياً وهو ما ينساه الناس بالنظر إلى كوريا الجنوبية اليوم.
لكن أوباما جاء إلى السلطة مصمماً على تجنب تبني هذا النهج. ففي أفغانستان، وضع جدولاً زمنياً غير مقيد بشروط لانسحاب القوات. وفي ليبيا، قام بقصف نظام القذافي وإسقاطه من سدة السلطة، لكنه لم يبقَ هناك لمساعدة حكومة جديدة في الوقوف على قدميها. وفي العراق، تجاهل مشورة مستشاريه المدنيين والعسكريين ورفض إبقاء 15.000 أو 20.000 جندي في البلد، والذين ربما كانوا سيساعدون في الحفاظ على الاستقرار الذي ساعدت زيادة عديد القوات الأميركية في تحقيقه.
لم يدافع الرئيس عن ذلك الانسحاب بسبب الأحقاد الألفية القديمة التي جعلت من العراق حالة ميؤوساً منها. كان الأمر على العكس من ذلك تماماً في واقع الأمر: لقد جعل النجاح من الوجود الأميركي فائضاً لا لزوم له. وكان الرئيس قد قال في العام 2011: “هذه لحظة تاريخية. ثمة حرب تنتهي. ويوم جديد يطل علينا، سوف يرى الناس في جميع أنحاء المنطقة عراقاً جديداً يقرر مصيره –بلداً يمكن أن يحل فيه الناس من الطوائف والأعراق الدينية المختلفة خلافاتهم سلمياً من خلال العملية الديمقراطية”.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الحسابات لتقدير تهور قراره. صحيح أن القليلين فقط هم الذين تنبأوا بكيف ستنهار تلك الأمة تماماً، مع قدوم خلافة شريرة تحتل قسماً كبيراً من البلاد وعودة التفجيرات المتكررة إلى بغداد. لكن صفحة المقالات الافتتاحية في “الواشنطن بوست” لم تكن الوحيدة التي تحذر في ذلك الوقت من أن “الانسحاب الكامل يزيد بشكل حاد مخاطر انهيار المكاسب الأمنية التي تم تحصيلها ببالغ الألم والمشقة في العراق”.
أستطيع فهم السبب في أن أوباما والعديد من الأميركيين يرفضون الانخراط المستمر في الخارج، والذي يُدعى بسخرية “بناء الأمة” في كثير من الأحيان. فهو أمر صعب، وكثيراً ما تمارسه الولايات المتحدة بشكل سيئ ولا تنجح فيه في أحيان أخرى؛ ولا يستطيع الأميركيون فرض الديمقراطية؛ وكثيراً ما ينتهي بنا المطاف إلى القيام بالعمل الذي نتمنى أن يقوم به السكان المحليون وجيرانهم. كما أن أوباما محق، أيضاً، في أن مناطق أخرى، مثل منطقة المحيط الهادئ، هي أكثر أهمية بالنسبة للاقتصاد العالمي وأكثر مركزية لاستراتيجية الولايات المتحدة.
لكن هناك حقيقة عنيدة تقف في وجه كل هذه الحكمة، والتي أكدتها مرة أخرى إعادة التصعيد التي ينتهجها أوباما: إن الولايات المتحدة ليس لديها خيار. فالتفكك لا يثبت، وإنما ينتشر إلى سورية وباريس وبروكسل وسماء البحر الأبيض المتوسط، والولايات المتحدة في نهاية المطاف. وفي ظروف أكثر صعوبة بكثير مما كان، يجد الرئيس نفسه الآن وهو يطلق القاذفات فوق سورية ويرسل الجنود إلى العراق، ثم لا يستطيع أن يعترف، ربما حتى لنفسه، بأن فك الارتباط كان خطأ. وهو السبب في الإصرار -حتى مع أن الأميركيين يُقتلون مرة أخرى في العراق- على أنه لا يوجد أفراد من الجيش منخرطون في القتال.
لكنه سيكون صحياً للبلد، وللرئيس القادم، التحرك إلى ما وراء فكرة جعل الناس يصدقون. ليست هناك هزيمة “بسرعة، بسرعة” (بكلمات ترامب) للإرهاب الإسلامي –وليس هناك طريقة آمنة للتراجع عن مواجهة التحدي الذي تشكله محاربته على المدى البعيد.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد