ارتبكت وتقاطعت أصوات المطالبين بالإصلاحات ومحاربة الفساد في العراق، بعد تصاعد صوت معارك الفلوجة، وخاصة في ما يتعلق بدور الميليشيات في تلكالمعارك، وتشتت مواقف حتى أشد المطالبين بقيام دولة مدنية بعيدة عن الأحزاب الطائفية، أو على الأقل حكومة تكنوقراط.
حين تشتد المعارك ترتفع الأصوات العالية لتخرس جميع الأصوات العقلانية، وهو ما يحدث في جميع الحروب في العالم. هكذا أصبحت عبارات التخوين تطلق على كل من ينتقد دور الميليشيات، رغم أن الأغلبية كانت حتى قبل أيام، تطالب بحل الميليشيات الطائفية، وتتبرم من دورها في الحياة العامة.
ولم يعد يسلم من الانتقادات حتى من يبدأ حديثه بالاحتفال بقرب تحرير الفلوجة، وهو القاسم المشترك بين جميع العراقيين الحريصين على مستقبل البلاد.
وقد تعرضت شخصيا لهجمات شديدة على موقع فيسبوك حين قلت بأن موقفنا من الميليشيات، ينبغي أن لا يتغير بسبب المعارك، وأن انتقاد الميليشيات لا يعني عدم الاحتفاء بالمعارك البطولية التي تقودها القوات النظامية وجزء كبير من الحشد الشعبي، الذي يضم مقاتلين من كافة الطوائف.
ألم تكن معركة تحرير الرمادي أفضل رغم أن المدينة دمرت بالكامل؟ والسبب لأنها لم تثر أي حساسية بين طوائف المجتمع، لأنها تمت على يد القوات النظامية وسكان تلك المناطق.
هكذا ضربت الميليشيات هدفين بحجر واحد، حين بعثرت أصوات المتظاهرين والمطالبين بالإصلاح، وأصبحت منقذا في نظر البعض، بعد أن أصبحت حتى وقت قريب موضع نقمة المتظاهرين. لم يعد ينفع التذكير بأن تلك الميليشيات هي نفسها التي قتلت المتظاهرين في بغداد، وأنها السبب الرئيسي في انفلات الدولة وانتشار الجرائم والفساد المالي، وصولا إلى عجز الدولة عن تقديم الخدمات.
أصبحت الأصوات التي تقول إنه ينبغي إبعاد الميليشيات عن المعركة، أصوات نشازا تقلل من شأن الانتصار! رغم أن قناعة معظم العراقيين كانت تؤكد حتى وقت قريب، أن مستقبل العراق أصبح رهينة بيد الميليشيات وأنها لا تختلف عن ميليشيا تنظيم داعش!
جميع العراقيين يعرفون ما تفعله الميليشيات من جرائم في بغداد والبصرة وبقية محافظات وسط وجنوب العراق، وأنها أصبحت أكبر العقبات أمام مطالبهم بقيام حكومة مدنية مسؤولة ومحاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة.
ويعرفون أيضا أن كل الفاسدين الكبار في جميع الأحزاب والطوائف ما كانوا ليسرقوا ويخربوا البلد لو لم تكن لديهم ميليشيات. إذا كان ذلك هو سلوك الميليشيات في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق فما بالكم بسلوكها في مناطق القتال؟
ينبغي على العراقيين أن يدركوا أن داعش يمكن أن يسقط خلال أيام، لو أن الحكومة قامت بردع الميليشيات وتصفيتها وفرض سلطة الدولة المدنية، لأن سكان المناطق المحتلة سينتفضون على داعش حين يعلمون بأن بغداد عادت إليهم سلطة محايدة لكل العراقيين، بل إن داعش ما كان ليظهر لو لم تكن هناك ميليشيات وكانت أجهزة الدولة مهنية ومسؤولة.
إنها دعوة لكل العراقيين إلى ألا يسمحوا للميليشيات بالتلاعب بمشاعرهم الصادقة تجاه مستقبل البلد، وألا ينخدعوا في حرارة أخبار المعارك، وينسوا الموقف السليم من جميع الميليشيات.
السؤال الحاسم هو لماذا تحتاج الدولة إلى ميليشيات؟ وقد اعترف رئيس الوزراء حيدر العبادي قبل أيام بوجود أكثر من 100 ميليشيا في بغداد، تعيث فسادا ولا تستطيع الدولة ضبط أفعالها!
لا يمكن للعراق أن يبدأ مرحلة ما بعد داعش وأن يستعيد عافيته، في ظل وجود الميليشيات والأحزاب الطائفية. وسوف تتواصل الأزمات والكوارث، حتى لو تم القضاء على ميليشيا داعش عسكريا.
المشاكل ستنبثق بأشكال أخرى من الثأر والانتقامات ما دامت هناك أحزاب طائفية تحكم البلد. ولن يخرج العراق من أزماته إلا بانتهاء المحاصصة الطائفية وانتهاء دور الأحزاب الدينية، وقيام الدولة المواطنة المدنية، التي يتساوى أمامها جميع العراقيين.
دور الميليشيات في معارك الفلوجة، وربما في معارك الموصل أيضا، سوف يعمق دورها في قمع المتظاهرين المطالبين بالإصلاحات في بغداد وبقية المحافظات وفي استمرار الفساد وقد يؤدي في النهاية إلى انهيار الدولة، وهي كارثة ما بعدها كارثة.
كلما سقط العراقيون في كارثة قالوا إنها أسوأ الكوارث، ليفاجأوا بعدها بكارثة أكبر. والخروج من هذه الدوامة الدموية يتطلب على الأقل في مرحلة أولى انسحاب حيدر العبادي من حزب الدعوة وتشكيل حكومة من المستقلين التكنوقراط، وإعلان نهاية عهد المحاصصة الطائفية.
إذا لم يحصل ذلك فسوف تتواصل الأزمات إلى حين إقالة الحكومة وتشكيل حكومة إنقاذ وطني بعيدة عن جميع الأحزاب الحالية.
سلام سرحان
صحيفة العرب اللندنية