قتل أكثر من 30.000 ليبي خلال سبعة أشهر من القصف الذي نفذته في الأساس قوة من ثلاثة بلدان -فرنسا وبريطانيا العظمى، والولايات المتحدة– والتي فضلت بوضوح الاصطفاف إلى جانب الثوار. وبعبارات الأمين العام الدنماركي لحلف الناتو، أنديرس فوغ راسموسين، في طرابلس في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2011 فقد كانت تلك: “أنجح مهمة للناتو في التاريخ.”
ويتناقض حرص الرئيس الفرنسي السابق نيكولاس ساركوزي على دعم التدخل العسكري بالهدف المعلن لحماية المواطنين المدنيين، مع الاستقبال الحافل الذي حظي به الزعيم الليبي معمر القذافي عندما زار باريس في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2007، حين وقع على اتفاقيات عسكرية كبيرة بقيمة 4.5 مليار يورو، سوية مع اتفاقيات تعاون لتطوير الطاقة النووية للاستخدامات في زمن السلم. وركزت العقود التي تبدو ليبيا أنها لم تعد ترغب في متابعتها على 14 طائرة نفاثة مقاتلة متعددة الأدوار، من طراز “رافال داسالت” وتسليحها (نفس النموذج الذي باعته فرنسا أو تحاول بيعه للجنرال المصري عبد الفتاح السيسي، الرئيس المعين ذاتياً)، وعلى 35 طائرة عمودية من طراز “يوروكبتر، وستة قوارب دورية، ومائة عربة مدرعة، بالإضافة إلى صيانة وتجديد 17 طائرة مقاتلة من طراز “ميراج ف-1” كانت شركة داسالت للطيران قد باعتها لليبيا في السبعينيات.
وكانت شركات النفط الرئيسية (أوكسيدنتال بتروليوم؛ وستيت أويل وبترو كندا، العاملة في ليبيا قد ساعدت في دفع مبلغ 1.5 مليار دولار كتعويضات لعائلات ضحايا طائرة الركاب المدنية “بان أم، في رحلتها رقم 103. وفي ذلك الوقت كان التعويض واحداً من الشروط التي طلب من ليبيا الوفاء بها حتى يعاد قبولها في المجموعة الدولية.
وكانت صناديق الاستثمار الليبية الرئيسية (لافيكو- شركة الاستثمارالعربي الأجنبي الليبية؛ وهيئة الاستثمار الليبية) صاحبة حصص في العديد من الشركات الإيطالية والبريطانية (فيات؛ ويوني كريديه؛ ويوفنتوس؛ ومجموعة بيرسون مالكة الفايننشيال تايمز؛ وكلية الاقتصاد في لندن، حيث تمت مخاطبة القذافي بعبارة “الأخ القائد” خلال مؤتمر بالفيديو في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2010، وحيث منح نجله سيف لقب الدكتوراة الفخرية في العام 2008. وكان بنك الاستثمار “غولدمان ساش” في نيويورك قد تعرض للملاحقة القضائية من جانب صندوق ليبي في العام 2014 (هيئة الاستثمار الليبية) والتي خسرت أكثر من 1.2 مليار دولار بين كانون الأول (يناير) ونيسان (أبريل) من العام 2008، بعد أن تقاضى المصرف الأميركي عمولة بقيمة 350 مليون دولار لاستثمارها الأموال في شؤون تنطوي على قدر كبير من المضاربة.
وكانت القوى الرئيسية الأوروبية قد استقبلت معمر القذافي بتشريفات كاملة في فترات سابقة. فبالإضافة إلى الاستقبال وفق أعلى طراز في باريس، حيث حل ضيفاً لخمسة أيام في العام 2007، فقد استقبل في أسبانيا في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2007، وفي موسكو في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2008، وفي روما في آب (أغسطس) من العام 2010، بعد عامين من قبوله هدية إيطالية بقيمة 5 مليارات دولار كتعويض عن الاحتلال الإيطالي لليبيا من العام 1913 وحتى العام 1943. كما تجدر الإشارة في هذا المقام إلى الرحلات الخمس التي قام بها إلى طرابلس رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، المستشار رفيع المستوى ومدفوع الأجر لبنك الاستثمار “جيه بي مورغان تشيز”. وكان الرئيس الفرنسي السابق، نيكولاس ساركوزي، قد حل ضيفاً في طرابلس في تموز (يوليو) من العام 2007، حيث أعلن عن بدء شراكة لتركيب مفاعل طاقة نووية في ليبيا. وكان الاتحاد الأوروبي مستعداً لتسهيل وصول الصادرات الزراعية الليبية إلى السوق الأوروبية. وقام قادة الناتو العسكريون بدعوة ليبيا لحضور اجتماع قادة القوات البحرية في طولون في الفترة بين 25-28 أيار (مايو) 2008.
وتُذكر هذه السياسة بتلك التي تم انتهاجها من قبل الزعيم العراقي الراحل صدام حسين. فقد كان الزعيم العراقي قد دعي لزيارة باريس في حزيران (يونيو) من العام 1972، وأيلول (سبتمبر) من العام 1975. وتم توقيع اتفاقية في حزيران (يونيو) 1977 لبيع 32 طائرة هجومية من طراز “ميراج ف-1” لبغداد. وهي مناسبات لم تقدم لأي منهما أي خير على المدى الطويل.
وقد ساعد قادة عسكريون عرب (محاربون سابقون في أفغانستان وأعضاء في مجموعة القتال الإسلامية الليبية، والذين لهم صلات بتنظيم القاعدة) في الإطاحة بالقذافي. وكان واحد من القادة العسكريين للثورة، عبد الحكيم بلحاجي (أبو عبد الله الصادق) حينها مسؤول الأمن في طرابلس. وهو اليوم القائد الرئيسي لحزب الوطن الإسلامي المحافظ، وكان قد اعتقل في بانكوك في العام 2004 ، وعذب على يد عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وتم تسليمه للقذافي الذي أودعه في سجن أبو سليم. وهو الآن زعيم مجموعة “داعش” في ليبيا. وهناك جاب الله مطر، الذي اختطفته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من منزله في القاهرة في العام 1990، وسلمته للمسؤولين الليبيين. وتظهر وثائق عثر عليها بعد وفاة القذافي تعاوناً وثيقاً بين أجهزة الاستخبارات الليبية والأميركية والبريطانية.
في عهد القذافي، لم يكن هناك وجود فعلي للإرهاب الإسلامي . وقبل حملة القصف الجوي تحت القيادة الأميركية في العام 2011، كانت ليبيا تتوافر على أعلى مؤشر للتنمية البشرية، وأقل نسبة وفاة للأطفال، وأعلى معدل الأعمار المتوقعة في كل أفريقيا. واليوم أصبحت ليبيا دولة محطمة.
في كانون الثاني (يناير) من العام 2012، بعد ثلاثة أشهر من توقف الأعمال العدائية، ذكرت المفوض الأعلى لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، نافي بيلاي، أن هناك انتشاراً واسع النطاق للتعذيب والإعدامات الفورية والاغتصاب في السجون الليبية. وفي نفس الوقت، قررت منظمة أطباء بلا حدود الانسحاب من مصراتة بسبب استمرار تعذيب المعتقلين.
لقد وضع تدخل حلف الناتو في ليبيا، بمشاركة معظم البلدان الأعضاء في الحلف تحت ذريعة التدخل الإنساني، أسس سابقة سيئة الطالع للجهود المبذولة لحل الأزمة السورية. ومن ذلك هجوم الطائرات الحربية الفرنسية والبريطانية على قبيلة ورفلة التي ظلت موالية للعقيد القذافي، وعلى القافلة التي كانت تقل الزعيم الليبي وأحد أبنائه مما أفضى إلى موت القذافي مباشرة في ظل ظروف قابلة للإدانة. وتعرض أفلام التقطها مصور الفيديو علي الغادي والصحفي تراسي شيلدون تقريرا غرافيا لجر العقيد القذافي من أنابيب للمياه العادمة في 20 تشرين الأول (أكتوبر)، وقتله بعد ذلك بوقت قصير. وتكذب هذه الظروف الطبيعة الإنسانية اسمياً للتدخل العسكري، وتشوه صورة “الربيع الليبي”.
كان مقتل السفير الأميركي في ليبيا، كريستوفر ستيفنز، وأحد مساعديه بسبب حريق أُشعل في القنصلية الأميركية في بنغازي في أيلول (سبتمبر) من العام، انعكاساً لمدى نشاطات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي كانت القنصلية تخدم كواجهة لها. كما كان تجنيد الوكالة في قاعدتها في بنغازي لمقاتلين من درنة للقتال في سورية -قسم من أسلاميي (كتيبة البيطار) للقتال ضد الرئيس بشار الأسد، ينطوي على تشابهات حتمية مع التجنيد في العام 1979، -مرة أخرى من جانب “سي. آي. إيه” للمجاهدين ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، مع كل التداعيات التي ندركها تماماً -وبشكل خاص ولادة الجهادية السنية.
كان الهجوم بسيارة مفخخة على السفارة الفرنسية في طرابلس في نيسان (أبريل) من العام 2013؛ وهروب 1200 معتقل من سجن بنغازي؛ وقتل ناشط حقوق الإنسان عبد السلام المسماري في تموز (يوليو)؛ والهجوم على القنصلية السويدية في بنغازي في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2013، كانت كلها تطورات أبرزت فشل السلطات في السيطرة على الحالة الأمنية في ليبيا التي اكتسحتها المليشيات المدججة بالأسلحة. وفي تموز (يوليو) من العام 2013، هدد رئيس الوزراء في حينه علي زيدان بتفجير الموانئ الليبية في منطقة بنغازي، والتي كانت تحت سيطرة الميليشيات المستفيدة من تصدير النفط الذي يقع الآن تحت سيطرتها. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، قام 150 مسلحاً باختطاف رئيس الوزراء في وسط طرابلس، واحتجز لست ساعات للاحتجاج على اختطاف أبو أنس الليبي على التراب الليبي في عملية أميركية سرية. وكان الليبي قد اتهم بأنه أحد قادة القاعدة، وتوفي لاحقاً وهو رهن الاحتجاز في الولايات المتحدة.
بدأ العام 2015 وليبيا خالية من كل المؤسسات. وأصبحت خاضعة لحكم مجموعة من الائتلافات التي تتنافس على السلطة، المتمركزة في طرابلس (فرج ليبيا التي تسيطر على البنك المركزي)، وبنغازي (مجلس شورى بنغازي المكون من أنصار الشريعة، في مواجهة الجيش الوطني الليبي التابع للجنرال المنشق خليفة حفتر)؛ وفي طبرق (فصيل من المجلس الانتقالي الوطني الذي تمتع باعتراف دبلوماسي دولي بعد انتخابات حزيران من العام 2013).
الآن، أصبحت الأوضاع الأمنية والصحية للمواطنين المدنيين كارثية تقريباً. وعندما زرت البلد في العام 1994، كان نموذجاً للصحة والتعليم العامين، وكان يتفاخر بتسجيله أعلى معدل لدخل الفرد في أفريقيا.
وكان واضحاً أن ذلك البلد هو أكثر الدول العربية تقدماً فيما يتعلق بالوضع القانوني للنساء والعائلات في المجتمع الليبي (نصف الطلبة في جامعة طرابلس كانوا من النساء). وتقف الاعتداءات على مقدمة البرامج سارة المسلاتي في العام 2012، وعلى الشاعرة عايشة المغربي في شباط (فبراير) 2013، وعلى الناشطة في مجال حقوق النساء مجدولين عبيدة، التي تعيش راهنا في المنفى في لندن، تقف هذه الحوادث لتكون شهادة قاتمة على وضع النساء القانوني في ليبيا ما بعد القذافي.
أصبحت مدينة بنغازي الآن شبه مدمرة، حيث المدارس والجامعات مغلقة في الغالب. وهي مسرح للاشتباكات بين فصائل متنافسة ممولة ومسلحة من جانب سلسلة من الرعاة. وهناك جنرال كان مقيماً في الولايات المتحدة لحوالي 27 عاماً، والذي يقود ائتلافاً يحظى بدعم عسكري من مصر والإمارات العربية المتحدة والعربية السعودية، بينما تعلن جماعات إسلامية ولاءها لـ”داعش”، وتتخندق بشكل جيد في سرت ودرنة، وهي قادرة على توسيع نفوذها بفضل الأزمة المؤسساتية. في حين تدعم كل قطر وتركيا والسودان مجموعة “فجر ليبيا” من جهة أخرى.
كان القذافي، زعيم الثورة الليبية، الجماهيرية، في السلطة من العام 1969 إلى العام 2011، قد وجه تحذيرا إلى أوروبا في مقابلة مع الصحفي الفرنسي لوران فالديغ من صحيفة “جورنال ديدامنش” عشية تدخل الناتو، بعبارات تبدو الآن نبوئية.
قال: “إذا سعى أحد إلى زعزعة استقرار ليبيا، ستعم الفوضى العارمة، وبن لادن والفصائل المسلحة. هذا هو ما سيحدث. وسوف تواجهون هجرة آلاف الناس الذين سيغزون أوروبا من ليبيا ولن يكون بمقدور أحد وقفهم. وسيتمركز بن لادن في شمال أفريقيا، وسيكون بن لادن على عتبة بيتكم. وستمتد هذه الكارثة من باكستان وأفغانستان لتصل إلى شمال أفريقيا”.
والآن، أصبحت ليبيا مركزاً للتهريب غير المشروع، وخاصة المهاجرين الأفارقة، في ظل ظروف تذكر بتجارة الرقيق. ووفق المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة عبر الحدود، فإن سوق تهريب اللاجئين في ليبيا تساوي 323 مليون دولار في العام 2014. وفي الأشهر الخمسة الأولى من العام 2015 وصل أكثر من 50 ألف مهاجر ليست لديهم وثائق رسمية إلى إيطاليا، قادمين من السهل الساحلي الأفريقي عبر ليبيا. كما فقد 1791 مهاجراً أرواحهم في البحر. وقبل بدء الأعمال العدائية، كان هناك 1.5 مليون أفريقي من منطقة الساحل الأفريقي يعملون في ليبيا في وظائف ثانوية بشكل رئيسي، مثل صناعة النفط والزراعة والخدمات والقطاع العام. وما تزال الأيام السوداء في البحر قادمة على الطريق.
ترجمة: عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد