تعاني غالبية الدول العربية من مشاكل جوهرية في مجال التنمية، ترتبط بأنماط الحَوْكمة السياسية والاقتصادية السائدة، والمتمثلة في اعتماد النظام الريعي، وانفراد النفط كمصدر وحيد للدخل، وضعف إنتاجية المجتمع؛ ما جعل السياسات الحكومية عاجزة عن إحداث الإدماج المنشود تنمويا بين القطاع النفطي والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية بما يحقق النهضة الإنتاجية والرفاهية المستدامة.
ويفيد الخبير الاقتصادي خليل الدوسكي، لـ“العرب”، بأن “أحادية النفط كمورد للموازنة العامة تؤدي إلى خلق قطاع منعزل عن بقية مجالات الاقتصاد والمجتمع؛ ما يستوجب توظيف عائدات النفط بما يخدم التنويع، ويضمن تحقيق معدلات تنموية معقولة”.
وتبدو الحاجة اليوم ملحة إلى كسر العزلة التنموية للنفط عبر نماذج جديدة في تخطيط وإدارة عائداته، وفق بوصلة تنموية هادفة، واستراتيجيات بعيدة المدى، تقوم على الشمول البشري والقطاعي والجغرافي، لإدارة واستثمار الأصل النفطي على المدى المستقبلي، وتحويله إلى بنية اجتماعية وقوة ناعمة وإمكانات إنسانية في مجالات التعليم والإبداع والابتكار، وبناء القدرات السياسية والاقتصادية، والازدهار الاجتماعي والتغيير الثقافي؛ لتمنح المجتمعات المزيد من الاستقلالية والكفاءة والاعتماد على الذات.
جدلية السياسة والاقتصاد
تواجه الدول العربية تحديات ذات طبيعة سياسية واجتماعية وثقافية، ترتبط أساسا باحتدام الصراع السياسي والاجتماعي، وعدم القدرة على معالجة “أزمة الهوية” وقضايا التعايش بين المكونات الدينية والإثنية والعرقية والفكرية؛ ما شكّل تهديدا خطيرا للتنوع الثقافي والسلم الأهلي في هذه المجتمعات. وهذا المشهد المعقّد يجعل استثمار الثروات والطاقات العربية متعسّرا في ظل الفوضى السياسية والتشوّهات الاجتماعية، فضلا عن الاختلالات الهيكلية العميقة في الاقتصاد.
ويرى الدوسكي، وهو أستاذ الاقتصاد بجامعة دهوك في كردستان العراق، أن مصدر الأزمات هو “هيكلية النظم السياسية، والنزعات السلطوية المهيمنة في دول المنطقة، ما يجعل الحكومات غير مؤهلة لقيادة التنمية الاقتصادية، وغير مستعدة لتهيئة المناخ السياسي اللازم لتلك التنمية”.
ويضيف أن “الانسداد السياسي في الدول العربية، والناتج عن الممارسات التعسّفية للحكومات، هو مصدر التوترات السياسية والاختلالات الاقتصادية في آن معا”، لافتا إلى ما ينتجه الاستعصاء السياسي والديمقراطي من “فضاء عام داعم للفساد المالي والإداري، يعيق أو يقضي على مجهودات التنمية”.
وحول إمكانية الخروج من هذا المأزق، يوضح زكي متي عقراوي، أستاذ الاقتصاد في جامعة دهوك، أن “الاستهداف الرشيد لتحقيق الاستقرار السياسي واستتباب الأمن، وفق رؤى شاملة تراعي حقوق الإنسان وحرياته، والنهج العقلاني في الإدارة وبناء السياسات؛ تعدّ كلها ركائز رئيسية لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية”.
يعد التداخل بين مجتمع السياسة ومجتمع المال والأعمال من أبرز عوائق التقدّم الاقتصادي في العالم العربي. ويعتقد أحمد البريفكاني، أستاذ الاقتصاد الصناعي في جامعة دهوك، أن “التزاوج بين النفوذ السياسي والنشاط الاقتصادي يفتح بوابة واسعة للفساد”، مرجعا هذه الظاهرة إلى “الاستنساخ السلبي لتجربة الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص بصيغة تتيح الإفادة من ميزات القطاع العام وإمكاناته لصالح النشاط الاقتصادي للمسؤولين المتنفذين”.
ويبيّن البريفكاني، في تصريحاته لـ”العرب”، أن “التجربة الدولية زاخرة بنماذج الشراكة بين القطاعين الحكومي والأهلي في المجتمعات النامية، بما يخدم التطوير الاقتصادي والانعتاق من الفقر والتخلف”؛ لكنه يضع شرطا لنجاح مثل هذا التعاون، هو “ضمان ألا تكون للسياسيين والمسؤولين الحكوميين منفعة شخصية من ورائه”.
أما الأكاديمي عقراوي فيعتبر، في حديثه لـ”العرب”، أن الفساد “ظاهرة عالمية” ولا يمكن القضاء عليه بالكامل، لكن هذا لا يمنع، برأيه، من “اتخاذ حزمة قرارات سليمة مستندة إلى أسس علمية، تتمحور حول النظرية الاقتصادية والتجارب الدولية، باتجاه تثمير مقاربات ومعالجات للسياسات الاقتصادية والمالية، بطرائق تحاصر شبكات الفساد وتصون المال العام”، وهو ما يستدعي، بحسب عقراوي، توافر “رؤية سياسية حكيمة وعقلانية تأخذ بعين الاعتبار مُداواة التشوهات الاجتماعية والاقتصادية، والوصول إلى المناطق الرخوة في المجتمعات بغية النهوض بها”.
عند تحليل العلاقة بين الثقافة السائدة ومنظومة القيم في المجتمع من جهة، ووعيه لمصالحه ومحددات اتجاهاته الاقتصادية وأنماطه التنموية من جهة أخرى، يظهر تباين الصيغ التي تنتهجها مجتمعات ذات ثقافة تقليدية ونزعة أبوية عن تلك التي تعتمدها مجتمعات ليبرالية أكثر حداثة وانفتاحا؛ إذ يشير البريفكاني إلى “أثر كبير للثقافة الاجتماعية المُحافِظة في تحديد الخيارات الاقتصادية والتنموية للمجتمعات”.
ويوضح أن نظرة هذه الثقافات لقضايا، مثل عمل المرأة ومشاركتها في الحياة الاقتصادية والفوائد المالية للبنوك، هي أكثر تشددا من غيرها. ويرجع هذا الواقع الثقافي إلى “عوامل كالثقافة الدينية للمجتمع، وتركيبته السوسيولوجية، وبنيته الاجتماعية التي تقوم على الأواصر العشائرية والنزعة الذكورية، وتعتمد نمطا من العادات والتقاليد التي يمكن لها كلها أن تعرقل تحقيق التنمية”.
الاستثمار في الإنسان
يسلّط خليل الدوسكي الضوء على الفارق بين الاقتصادات الغربية والعربية في ثقافة الاستثمار في رأس المال البشري، فيلفت إلى “قدرة الدول الأوروبية على استقبال موجات اللجوء واستيعابها اجتماعيا واقتصاديا”؛ في حين يعتقد أن “وجود اللاجئين والنازحين في دول منطقتنا أدى لمفاقمة أزماتها الاقتصادية، لأن أغلبها لا تتمتع باقتصادات مرنة تسمح باستيعاب القوى العاملة النازحة؛ وبالتالي تُخفق في استثمار هذه الموارد البشرية بالطريقة المثلى التي تصب في زيادة معدلات النمو الاقتصادي وتحقيق استدامة العملية التنموية”.
ويوضح أحمد البريفكاني أن إعادة تأهيل الاقتصادات العربية مرهونة باعتماد فلسفة تنموية تقوم على الاستثمار في الإنسان أولا، فهو يرى أن الثروة البشرية يفترض أن تكون محور النظريات التنموية وتطبيقاتها باتجاه إخراج العالم الثالث من عزلته الحضارية وإلحاقه بالتطور الكوني. ويذكر البريفكاني عاملين يكرسان، برأيه، تأخر الإصلاح واحتباس التنمية في العالم العربي؛ الأول ثقافي، يرتبط بما يسميه “تخلف التفكير”؛ فالتقدم والتخلف، من وجهة نظره، “مسألة ذهنية ترتبط بأنماط التفكير أو العقلية المهيمنة قبل ارتباطها بالإمكانات المالية أو تراكم الثروة الريعية”. أما الثاني فسلوكي ويتصل بظاهرة تناقض الأقوال والأفعال لدى صناع القرار.
يطرح زكي عقراوي مقاربته لجدلية “النمو والتنمية” في الاقتصاد السياسي، فثمة آراء تفرّق بين المفهومين بافتراض أن النمو، بما يعنيه من وفرة مالية وزيادة في الدخل، ليس بالضرورة أن يفضي إلى تنمية بشرية ومجتمعية، بما تعنيه من تحسين نوعية حياة السكان ومعالجة الهشاشة الاجتماعية بصورة شاملة وعادلة؛ لكن عقراوي يرى أن “المكاسب الاقتصادية، التي تفرزها الطفرات المالية النفطية، يمكن أن تنعكس آليا على الجوانب الاجتماعية والثقافية ونمط حياة الفرد والمجتمع؛ بمعنى أن للنمو نتائج تنموية تلقائية، إذ يصب في صالح التغيير الاجتماعي والأبعاد الحضارية، ويؤدي إلى تنمية بشرية”.
أما البريفكاني فلا يعوّل على البعد المالي كثيرا، بل يعتقد أن معيار التنمية الحقيقية هو التحول الثقافي الجوهري في المجتمع والدولة؛ ما يستدعي برأيه توجيه السياسات الحكومية نحو الاهتمام بالموارد البشرية، والفئات المهمشة والمجتمعات المحلية الأقل حظا، والتعليم والتدريب والبنى المعرفية والقيمية. ويؤشر زكي عقراوي الفرق بين الدول المتقدمة والدول النامية في مجال تطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية وإجراءات الشفافية والمساءلة، فيبيّن أن “طبيعة البيئة السياسية والمؤسسية المضطربة في بلداننا تفرض السعي إلى اعتماد سياسات واقعية تتلاءم مع السياقات والظروف، تتعامل مع المعطيات على الأرض وتحاول تفكيك التحديات”؛ بما يستهدف، وفق مقاربته، تحقيق قدر من “العدالة النسبية وتقليل الفساد”.
ويدعو إلى “تكفّل الحكومات بترسيخ اقتران الاستراتيجيات الوطنية بتعزيز المؤسساتية كثقافة ومنظومة قيم، وتفعيل المؤسسات القائمة كأدوات وروافع ومحرّكات للتنمية”؛ ذلك أن التوجّهات العالمية المعاصرة، كما يراها، تتبنى “الإعلاء من شأن العمل المؤسسي، موضوعي الطابع، الذي تنبثق منه وترتكز عليه أطر ومناخات البيئة الاستثمارية والتجارية الجاذبة، ويقوم بديلا عن الشخصانية والعلاقات الأولية ما قبل المؤسسية”، حيث يبيّن عقراوي أن “مؤسسات النفع العام التي تديرها الدولة، في ظل فضاءات سياسية وأمنية مستقرة، وأجواء إدارية مؤاتية وتفاعلية، يمكنها تحقيق الكثير على صعيد التنمية الاقتصادية وبناء دولة الرفاه”.
همام طه
صحيفة العرب اللندنية