عقب انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، وإعلان الخميني وقف إطلاق النار بمرارة وصفها بأنها أبشع من شرب السم، اتخذت الجمهورية الإسلامية الايرانية قراراً حازماً بضرورة منع الجمهورية العراقية المتاخمة من إستعادة وحدتها الوطنية. ولم يكن ذلك القرار مرتبطاً بنتائج المواجهة الواسعة بينهما بقدر ما كان مرتبطاً بتاريخ هذين البلدين، وبالحاجز المذهبي الذي أقيم بينهما منذ المعارك الفاصلة بعد القادسية ونهاوند سنة 634 م.
وظلت أعراض ذلك الإنشطار المذهبي تظهر في مختلف وجوه ايران السياسية، لا فرق أكانت شاهنشاهية أم خمينية.
وكان من الطبيعي أن تسعى ايران الخمينية في هذا المجال الى تشجيع الولايات المتحدة على اجتياح العراق عام 2003، وتدمير بنيته التحتية ومؤسساته الرسمية. وقد عهدت بمهمة إقناع إدارة جورج بوش الابن الى رجليها في بغداد أحمد الجلبي، رئيس «الحزب الوطني العراقي»، وكنعان مكية، حامل شهادة فخرية من الجامعة العبرية. وقد نجحا في مهمة الإقناع، خصوصاً بعدما دخلت اسرائيل على الخط، وأيّدت قرار غزو العراق الذي تبناه ديك تشيني.
ولتأكيد هذا المنحى، أصدر السفير الأميركي السابق في العراق زلماي خليل زاد كتاباً يتضمن بعض الحقائق حول هذا الموضوع، عنوانه «المبعوث». وقد نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» بعض نصوص الكتاب، والتي تؤكد حدوث التنسيق بين واشنطن وطهران قبل الغزو.
وقال السفير خليل زاد إن محادثات سرية دارت بين مسؤولين اميركيين ومحمد جواد ظريف، سفير ايران السابق في الأمم المتحدة (جنيف). وكانت الغاية من تلك المحادثات حصول واشنطن على تعهد من ايران بعدم إغلاق الأجواء في حال اضطر الطيارون الأميركيون الى دخول الأجواء الإيرانية.
وحصلت واشنطن على ذلك التعهد. وكشف خليل زاد في كتابه أيضاً أن محمد جواد ظريف – الذي رقّي الى منصب وزير خارجية – كان مصراً على ضرورة حلّ المؤسسات الأمنية في العراق، وإعادة بنائها من جديد، بعد إجراء تطهير شامل لأعضاء «حزب البعث».
ومن المؤكد أن ظهور قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» وسط القيادة العراقية قرب الفلوجة أعطى الإنطباع بأن ايران تتدخل عملياً في معركة التحرير من سلطة «داعش».
لذلك سارع رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي الى إعلان بعض التوضيحات المتعلقة بأسباب وجود سليماني مع قوات الجيش والشرطة الاتحادية و «الحشد الشعبي». وقال إن حكومته طلبت من سليماني أن يكون مستشاراً أمنياً في شكل رسمي، تماماً مثلما طلبت من القيادة المركزية الأميركية تعيين مستشارين خاصين لشؤون الأمن القومي. وكان جواب العبادي مقنعاً لأنه ساوى بين دولة جارة وصديقة… وأخرى غريبة تدّعي الحفاظ على أمن العراق. لذلك قطع كل حجّة يمكن أن تُستخدَم للتشويش على مشاركة سليماني في معركة تحرير الفلوجة.
تقول مصادر عراقية موثوقة إن سبب انتقاد وجود سليماني كان أشبه برد فعل على اقتراح قدّمه قائد «الحرس الثوري» الإيراني السابق محسن رفيق دوست. ذلك أنه أعلن عن استعداد طهران لمساعدة العراق على تأسيس «حرس ثوري» يشبه في تنظيمه ومهمته «الحرس الثوري» الإيراني. وقال أيضاً: «إنه باستطاعة العراق الإقتداء بهذا النموذج الذي خاض معارك مهمة على الصعيدين الداخلي والخارجي. لذلك يستطيع أن يخدم العراق بخبراته مثلما خدم سورية».
ويبدو أن هذا الاقتراح لم يرُق للسنّة في العراق، كونه يمهد لتشكيل حرس يتقدم في نفوذه على قيادة الجيش المختلط، ويتمتع بصلاحيات استثنائية تجيز له المشاركة في الحكم. ولكن طهران تنظر الى المسألة من زاوية الهيمنة المتواصلة على الجارة التي أقلقت ماضيها وهددت حاضرها. لذلك يشكل «الحرس الثوري» رقيباً دائماً يمنع العراق من تجاوز حدوده مثلما فعل صدام حسين.
أهمية المعارك المستعرة هذه المرة على الجبهتين العراقية والسورية أن هجماتها تزامنت في وقت واحد بهدف تحرير الفلوجة والرقة، عاصمة تنظيم «داعش».
وتطوق الفلوجة مجموعة من القوى المتباينة بينها ميليشيات شيعية نافذة، بعضها تربطه بإيران علاقات تنظيمية وتدريبية. علماً أن نواب السنّة يعتبرون أن سرعة الهجوم ترمي الى تحويل الانتباه عن الاضطرابات القائمة في بغداد. أي الاضطرابات التي انتشرت عقب اقتحام مبنى البرلمان، ورفض النواب المصادقة على فريق العمل الذي اختاره رئيس الوزراء حيدر العبادي.
يقول المراقبون إن النصر في ميادين الحرب ضد «داعش» يُعتبَر من الانجازات البالغة الأهمية. ذلك أنه ينفي المزاعم التي روَّجها التنظيم بأنه قوة لا تُقهَر. ومثل هذا الأمر يثني المجندين الجدد عن الالتحاق به. كما يحول دون توسيع رقعة نفوذه في ليبيا وسيناء ومناطق أخرى. وقد تخفف إنتصارات القوات العراقية الضغط السياسي القائم على مختلف الجبهات الأخرى.
وترى واشنطن أن التقدم في ساحات القتال ضد «داعش» في العراق وسورية لم يترافق مع حل المشكلات السياسية العميقة التي كانت وراء ظهور التنظيم وعثوره على ملاذات آمنة في عدد من الدول.
القوات الأميركية الخاصة ترافق دائماً الجيوش العربية المقاومة لـ «داعش» في سورية والعراق وليبيا. وهي غالباً ما توفر لها المشورة والدعم الجوي. والثابت في هذا المجال أن الولايات المتحدة تُعتبر جزءاً من المشكلة في الشرق الأوسط. والسبب أنها تفتقر الى الريادة والجرأة، الأمر الذي يجعلها رهينة التردد والحيرة. ومثل هذا الأسلوب السلبي اختاره الرئيس باراك أوباما حلاً لعدم توريط قواته في مجابهة مكشوفة.
تعرضت معركة تحرير الفلوجة هذا الأسبوع لانتكاسات سياسية وأمنية تتعلق بالانتهاكات التي ارتكبت بحق آلاف النازحين واختفاء المئات منهم. وبسبب كثرة الشكاوى، وإصرار رئيس الجمهورية فؤاد معصوم على تشكيل لجنة تحقيق، اضطر رئيس الحكومة حيدر العبادي الى زيارة قواطع العمليات العسكرية. وأعرب عن قلقه من تقارير أفادت بحصول حالات خطف جماعية لنازحين من مناطق الصقلاوية والكرمة.
إثر عمليات التطويق والحصار في الفلوجة، زاد «داعش» جرائمه الانتقامية في محافظتي كربلاء وبغداد. وكانت حصيلة التفجيرات أكثر من خمسين قتيلاً بينهم أربعون من حي الحسين.
الأمم المتحدة حذرت من خطورة المرحلة، ومن ردود فعل «داعش» أمام تعدد الجبهات المفتوحة ضده داخل الدول العربية وخارجها. وجاء في تقرير أعده الأمين العام بان كي مون توصيات بضرورة زيادة الرقابة على انتقال الإرهابيين الأجانب، وتبادل المعلومات في شأنهم. وأشار التقرير أيضاً الى أن «داعش» شنَّ خلال الأشهر الستة الماضية هجمات متواصلة في روسيا والمانيا وفرنسا وبلجيكا واندونيسيا وباكستان وبنغلادش وتركيا ومصر والولايات المتحدة ولبنان، أسفرت عن مقتل خمسمئة شخص وجرح المئات. هذا الى جانب عملياته اليومية في سورية والعراق وليبيا واليمن وأفغانستان.
واعتبر بان كي مون أن زيادة الضغط على التنظيم في العراق وسورية يدفعه الى نقل أمواله الى الجماعات المنتسبة اليه خارج منطقة النزاع، مشيراً الى أن القيادة المركزية لـ «داعش» تعاني ضغوطاً مالية، الأمر الذي دفعها الى تخفيض رواتب المقاتلين في الرقة خمسين في المئة.
ويذكر تقرير الأمم المتحدة أن عائدات تهريب النفط نخفضت في العراق وسورية. كما أوقفت الحكومة العراقية صرف رواتب الموظفين الذين يعيشون في مناطق يسيطر عليها «داعش» والتي تعادل بليوني دولار سنوياً. وهذا ما قلص قدرة التنظيم على فرض الضرائب. لهذه الأسباب وسواها تحولت ليبيا الى مركز تحويل مالي لتنظيم «داعش»، المكلف حالياً بتمويل الجماعات الإرهابية التي تنتمي اليه.
ومن هذه الوقائع المتغيرة يتحدر السؤال التالي: هل نفاد المال لدى تنظيم «داعش» يمكن أن يقضي على هذه الحركة… أم أنها قادرة على الاستمرار من دون مال؟
يجيب الكاتب والمحلل باتريك كوكبرن عن هذا السؤال بالقول إنه كان في عمان حزيران (يونيو) 2014 عندما سمع بأن تنظيم «داعش» احتل الفلوجة التي تبعد من بغداد أربعين ميلاً فقط. كما أدهشه أيضاً أن يعرف بأن الجيش النظامي المقدَّر عدده بـ 350 ألف جندي، لم يحرك ساكناً. واختصر كوكبرن في حينه ملاحظاته بإصدار كتاب عنوانه: «الفوضى والخليفة». وفي سياق تناوله المتطرفين الجهاديين وصفهم بالعدميين لأنهم لا ينتظرون شيئاً من المستقبل، ولأن موتهم هو بمثابة فرار من الواقع المجحف. وهو يصفهم بأنهم شباب يسعى الى رفع لواء قضية، بحيث ينقل تطرفه من موقع الى آخر، من البوسنة الى أفغانستان الى الشيشان. ومن «القاعدة» الى «داعش».
والحل، في نظر هذا الكاتب، لا يأتي من طريق القوة، بل عبر أيديولوجية تزيل أعراض الاضطراب والقلق من نفوس آلاف الشبان في العالم الإسلامي!
سليم نصار
صحيفة الحياة اللندنية