في العشرين من أيار/مايو، وافق البرلمان التركي على مشروع قانون يمهّد الطريق أمام رفع الحصانة البرلمانية عن النواب الذين يواجهون تهماً جنائية. وكان «حزب العدالة والتنمية» قد بادر بهذا التشريع في محاولة واضحة لاستهداف نواب من «حزب الشعوب الديمقراطي» [«حزب ديمقراطية الشعوب»] المناصر للأكراد. بالإضافة إلى ذلك، تحالَف «حزب العدالة والتنمية» مع نوابٍ من «حزب الحركة القومية» [«حزب العمل القومي»] اليميني المتطرف لإقرار القانون عبر زيادة الأصوات المؤيدة له في إشارةٍ إلى التوجه السياسي القصير المدى، المتمثل بالتحول نحو التعصب القومي، الذي يتبعه الرئيس الإسلامي المحافظ رجب طيب أردوغان.
بيد، أن مواصلة السير على هذا الطريق قد تضع تركيا على خلافٍ مع مجتمعها الكردي وتزعزع الاستقرار المحلي وتُحدث شرخاً بين الحكومتين التركية والأمريكية، لا سيما وأن واشنطن تعتمد على الجماعات الكردية السورية لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». كما أن تحوّل أردوغان سيعقّد أيضاً الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لتوحيد قبرص.
طرد النواب الموالين للأكراد؟
على الرغم من أن القانون الجديد قد ينطبق من الناحية العملية على نواب من جميع الأحزاب، إلا أن أردوغان اقترح سابقاً تطبيقه على نواب «حزب الشعوب الديمقراطي» دون سواهم، حيث أن خمسين منهم يواجهون تهماً لعلاقتهم المزعومة بـ «حزب العمال الكردستاني» الذي يعتبر كياناً إرهابياً من قبل تركيا وحلف شمال الأطلسي وواشنطن. وخلال التصويت على القانون، حذر أردوغان نواب «حزب الشعوب الديمقراطي» قائلاً “إن دولتي لا تريد مناصرين للإرهاب في البرلمان”. والآن وحيث تم إقرار القانون، فبإمكان الرئيس التركي البدء في الإجراءات القانونية التي تؤدي إلى إقصائهم عن المجلس إذا شاء ذلك.
وبغض النظر عن الاعتبارات الواقعية التي تقف وراء الروابط المزعومة بين «حزب الشعوب الديمقراطي» و «حزب العمال الكردستاني»، لدى الرئيس دوافع سياسية كثيرة لاستهداف هذا الحزب. وعلى الرغم من تنامي صلاحيات أردوغان، الرسمية منها وغير الرسمية، بما في ذلك سيطرته الفعلية على «حزب العدالة والتنمية»، لا تزال البلاد خاضعة للنظام البرلماني ولم يعد يحق قانونياً لأردوغان تولي رئاسة الوزراء لأي ولاية أخرى. لذلك ركز على تحويل تركيا إلى نظام تنفيذي منذ توليه الرئاسة في عام 2014. وللقيام بذلك، يحتاج إلى الصلاحية اللازمة لتعديل الدستور، وهذا بدوره يتطلّب أغلبية برلمانية كبيرة.
وثمة طريقتان لتعديل الدستور، سواء بغالبية الثلثين في البرلمان (أي 367 من أصل 550 نائباً يصوتون لصالح التعديل) أو بغالبية ثلاثة أخماس النواب (330 صوتاً). وفي الحالة الأخيرة، يجب إخضاع التعديل لاستفتاء شعبي. ولدى «حزب العدالة والتنمية» حالياً 317 نائباً في مجلس النواب بعد أن فاز الحزب في انتخابات متتالية على قاعدة الحكم الاقتصادي الرشيد والقيم المحافظة والسياسة الخارجية الإسلامية. غير أن نتائج التصويت والاستطلاعات التي أجريت خلال السنوات القليلة الماضية تشير إلى أن الحزب قد استهلك الحد الأقصى من الدعم الانتخابي بواسطة هذه القاعدة، ولذلك ينبغي على أردوغان تغيير نهجه للوصول إلى العتبة اللازمة لتعديل الدستور.
وهنا يأتي دور «حزب العمل القومي». فبإمكان أردوغان مساعدة حزبه على كسب الغالبية التي يحتاجها – سواء في البرلمان الحالي أو من خلال إجراء انتخابات مبكرة أو استفتاء شعبي – عن طريق التودد إلى «حزب العمل القومي» والمقاعد الأربعين التي تعود له والتهديد باتخاذ إجراءات قانونية ضد «حزب الشعوب الديمقراطي» المنافس له وتوسيع القاعدة الشعبية لـ «حزب العدالة والتنمية» عبر اتخاذ هذه الخطوة وغيرها من الخطوات القومية المتشددة. ومثل هذه النتيجة ستؤدي إلى إقصاء فصيل المعارضة الرئيسي في تركيا، أي «حزب الشعب الجمهوري» اليساري العلماني الذي يملك حالياً 133 مقعداً.
بالإضافة إلى ذلك، يسعى أردوغان لإقرار تعديلٍ دستوري يمكّنه من إبطال الصفة اللاحزبية التاريخية المفروضة على الرئيس، والتي من شأنها أن تسمح له أن يدعي الزعامة الرسمية لـ «حزب العدالة والتنمية». وليس هناك شك في أنه يأمل تفادي المصير نفسه الذي لحق باثنين من الزعماء السابقين، هما تورغوت أوزال وسليمان ديميريل، اللذان سعيا أيضاً وراء الرئاسة وما لبثا أن تخلّيا عن حزبيهما النافذين بعد أن مُنيا بهزيمة كبرى في الانتخابات البرلمانية اللاحقة. إن جعل الرئاسة منصب حزبي، سيساعد أردوغان على العمل بنشاط لمنع تفكك حزبه وترسيخ سلطته. وقد سبق أن اتخذ خطوة في هذا الاتجاه في الخامس من أيار/مايو عندما دبّر استقالة رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو واستبدله بشخصية تتسم بطواعية أكبر. وباختصار، إذا فاز فصيل أردوغان بالمقاعد اللازمة لإقرار التعديلات الدستورية دون عوائق، سيصبح أردوغان رئيس تركيا ورئيس حزبها الحاكم ورئيس الحكومة الفعلي في آنٍ واحد.
تأمين دعم «حزب العمل القومي» في المجلس التشريعي
على المدى القصير، إذا استعان أردوغان بنفوذه القانوني لإقصاء نواب «حزب الشعوب الديمقراطي»، سيلقى دعماً كبيراً من النواب والناخبين اليمينيين التابعين لـ «حزب العمل القومي»، وسيجد حليفاً ولياً بالتحديد في زعيم الحزب دولت بهجلي. فهذا الأخير يواجه معارضة متزايدة داخل حزبه، من بينها دعوة مثيرة للنزاع من قبل بعض المندوبين تطالب باستبداله في مؤتمر الحزب. لكن المحاكم الدنيا منعت الاجتماع الأخير لـ «حزب الحركة القومية» بناءً على أوامر بدا أن دوافعها سياسية، ما أتاح لبهجلي البقاء في السلطة للوقت الراهن؛ وقد قامت عناصر الشرطة التركية تحت إمرة وزارة الداخلية بمنع المعارضين في الحزب من إجراء تصويت لاختيار زعيم جديد. وبما أن بهجلي مدينٌ ببقائه السياسي لأردوغان، فمن المحتمل أن يؤيد أي تعديلات دستورية تجعل من الرئاسة منصباً حزبياً.
استقطاب الناخبين، وإجراء انتخابات مبكرة، والتودد الجيش
على المدى البعيد، إذا استدعى أيٌّ من التعديلات الدستورية التي ينشدها أردوغان استفتاءً شعبياً، سيتوجب عليه على الأرجح الاعتماد على كسب أصوات ناخبي «حزب العمل القومي» لإقرار التعديل. وهذا قد يعني في الوقت الراهن التمسك بموقفه المتشدد تجاه «حزب العمال الكردستاني» طالما أنه يرى في ذلك ضرورة سياسية. ويشار إلى أن أنقرة كانت قد بدأت محادثات سلام مع الحزب المذكور في عام 2013، إلا أن هذه المحادثات قد انهارت في الصيف الماضي عندما أقدم عنصران من الحزب على إعدام شرطيين كانا خارج دوام خدمتهما. ومنذ ذلك الحين، تخلّى اردوغان عن دعمه السابق للمحادثات وأصبح متشدداً في سياسته ضد الحزب والحركة القومية الكردية ككل.
وإلى جانب الإجراءات القانونية، فإنّ التحول نحو النزعة القومية يمنحه وسائل أخرى لاستهداف «حزب الشعوب الديمقراطي» المناصر للأكراد وكسب غالبية ساحقة في البرلمان. وحيث باتت شعبية هذا الحزب في تضاؤل مستمر بسبب الاعتداءات التي نفّذها «حزب العمال الكردستاني»، من الممكن أن يطلب أردوغان إجراء انتخابات مبكرة إذا ما شعر أن «حزب ديمقراطية الشعوب» لن ينجح في الوصول إلى عتبة العشرة في المائة المطلوبة للتمثيل في البرلمان. فـ «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الشعوب الديمقراطي» هما الحزبان الوحيدان القادران على حشد عدد كبير من أصوات الأكراد في جنوب شرق تركيا، لذلك إذا فشل «حزب ديمقراطية الشعوب» في استيفاء العتبة المطلوبة، فقد يستحوذ «حزب العدالة والتنمية» على 40 إلى 50 من مقاعده ليقارب أغلبية الثلثين المطلقة.
وأخيراً وليس آخراً، من شأن التحول إلى محور ينادي بالقومية أن يساعد أردوغان على استعادة ثقة الجيش. إلا أن تخطي هذه العقبة سيكون صعباً، فالقوات المسلحة تستهجن أجندته السياسية ولا تزال حاقدة عليه بسبب محاكمات الأيرغينيكون بين عامَي 2007 و 2012 التي استُخدمت فيها أدلة مريبة على انقلاب مزعوم من أجل محاكمة المئات من كبار الضباط وسجنهم.
التداعيات على واشنطن
قد يكون لتبنّي أردوغان للخطاب القومي والأعمال القومية انعكاسات هامة على السياسة الخارجية التركية. وبداية، تجدر الإشارة إلى أنّ المرة الأخيرة التي تم فيها استبعاد النواب المؤيدين للأكراد عن البرلمان (عام 1994)، وقعت أسوأ جولة قتال عرفتها البلاد مع «حزب العمال الكردستاني» واستمرت لسنوات عديدة وسقط ضحيتها ما يزيد عن 2,100 مواطن وعضو من الأجهزة الأمنية في العام 1994 وحده.
ثانياً، من المرجح أن تبدي أنقرة موقفاً أقل حماسة من المحادثات بشأن توحيد قبرص، حتى لو لمجرد استرضاء الناخبين القوميين. إن ذلك قد يعقّد السياسية الأمريكية الإجمالية تجاه قبرص وخصوصاً المساعي التي يبذلها نائب الرئيس جو بايدن لإنجاح جهود التوحيد.
ثالثاً، قد يتسبب التغيير في نهج أردوغان بخلافٍ مع السياسة الأمريكية في سوريا. فموقفه الصارم من «حزب العمال الكردستاني» وهجمات الحزب الإرهابية المستمرة – بما فيها التفجيران الانتحاريان في أنقرة بين شهرَي شباط/فبراير وآذار/مارس، اللذان أسفرا عن مقتل ما لا يقل عن سبعة وخمسين شخصاً – قد أفسدوا نظرة الأتراك إلى التنظيم وحليفه السوري «حزب الاتحاد الديمقراطي». وقد كان الرئيس أوباما يعتمد على الجناح العسكري لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» – المعروف بـ «وحدات حماية الشعب» – لقتال قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا، ولكن معظم الأكراد يعارضون أي ترتيبات تسمح لهذه الجماعة تحقيق مكاسب على الأرض – حتى لو كانت هذه المكاسب ناتجة عن دحر تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو منظمة أخرى نفذت هجمات على المدن التركية في الآونة الأخيرة. فإذا زاد نهج أردوغان تشدداً تجاه «حزب العمال الكردستاني» وبالتالي «حزب الاتحاد الديمقراطي» /«وحدات حماية الشعب»، ستضطر واشنطن إلى إبداء حذر أكبر حيال عدم تضارب المساعي الأمريكية والتركية في سوريا.
ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، فإن الهفوات التي ارتكبها الزعيم التركي مؤخراً على مستوى السياسة الخارجية ستجبره على تجنب نفور واشنطن بالكامل. ففي تشرين الثاني/نوفمبر أسقطت تركيا طائرة روسية، ورداً على ذلك قامت بموسكو بتطويق البلاد بجيوشها في شبه جزيرة القرم إلى الشمال وفي سوريا إلى الجنوب وأرمينيا إلى الشرق، لذلك فإن أنقرة بحاجة إلى الولايات المتحدة مرة أخرى كونها حصناً في وجه عدوها التاريخي.
ومن شأن العودة إلى محادثات السلام مع «حزب العمال الكردستاني» أن تبدد التوتر بين أنقرة و «حزب الاتحاد الديمقراطي» بشكل شبه فوري، ولكن من المستبعد أن يحدث ذلك قبل أن يغيّر أردوغان الدستور التركي لكي يصبح رئيساً ذو سلطة مطلقة. وفي تلك المرحلة يمكنه التراجع عن موقفه القومي، ولكن حتى ذلك الحين سيؤدي التحول في سياساته إلى خلق تهديدات محتملة يجدر بالولايات المتحدة أن تراقبها عن كثب.
سونر جاغايتاي
معهد واشنطن