فشلت القوى التقدمية العربية في التعامل مع التهديدين التوأمين المتمثلين في الأنظمة الدكتاتورية والإسلامويين الرجعيين، كما يقول تقييم جديد قاتم لفوضى المنطقة.
* * *
مرة أخرى، تطغى على شهر رمضان أعمال العنف في كثير من أنحاء العالم العربي. فمن العراق إلى ليبيا، مروراً بسورية واليمن، تنتشر الصراعات المسلحة، والحروب بالوكالة، والتوترات العرقية والبؤس والمعاناة. وكان جلبرت أشقر حذر في كتاب سابق عن منطقة الشرق الأوسط من مخاطر الانحدار إلى البربرية؛ لكن آخر أعماله يشكل تحديثاً عن فصل الشتاء القاتم الذي أعقب الربيع العربي -مع بعض الأفكار حول المستقبل.
كانت التوقعات بحدوث تغيير سريع في العالم العربي على غرار نموذج أوروبا الشرقية مبالغاً فيها على الدوام، كما يقول الأكاديمي لبناني المولد. ولم يكن من المحتمل مطلقاً أن تنهار الأنظمة العربية -وكانت ليبيا هي النظام الوحيد الذي انهار فعلاً- لأن قادتها، وحاشياتهم، والعملاء التابعين، وبلطجية المخابرات، لم يكن لديهم أي مكان يتحولون إليه.
في حين يتحاشى الحديث عن كراهية الإسلام أو الأطروحات عن “الاستثنائية العربية”، يؤكد أشقر حقيقة أساسية، هي أن حركات المعارضة الوحيدة القابلة للحياة والعمل في المنطقة كانت الإسلاميين -“بديل رجعي عن النظام الرجعي”. كما يركز أشقر على إيران؛ راعية الحركات الشيعية في العراق ولبنان، إلى جانب المشتبه بهم المعتادين من دول الخليج السنية، كدعاة للطائفية.
في سورية، كما يستنتج أشقر، أساء الثوار قراءة دروس لبنان، معتقدين خطأ أن بشار الأسد سيتنحى بدلاً من المخاطرة بملاقاة مصير معمر القذافي. لكن هناك آخرين ارتكبوا أخطاءً قاتلة أيضاً: فقد فشل أوباما في دعم القوى المناهضة للأسد. وهو فشل وُلد، كما يقول “من لامبالاة إنسانية عميقة بمصير سكان بلد عربي فقير بالنفط” -وهي خطيئة إغفال من وجهة نظره، لا تقل سوءا عن غزو جورج بوش الكارثي للعراق قبل عقد من الزمن.
خلق فشل الولايات المتحدة والغرب في دعم المعارضة بشكل مناسب فراغاً أتاح لتنظيم القاعدة الازدهار، ولتنظيم “داعش” الظهور. كما عزز الأسد التطرف أيضاً؛ حيث أفرج عن السجناء الجهاديين (الذين كان تم إرسالهم سابقاً لمحاربة الأميركيين في العراق)، بل إنه زودهم بالأسلحة أيضاً. وكانت استراتيجيته تقوم على تخويف الغرب وأقليات البلد، وتقديم نفسه على أنه البديل الوحيد –أي شيء سوى “المخاطر المحتملة لعدوى الديمقراطية”، بعبارة أشقر. وكان “العدو المفضل” للأسد هو “الأصدقاء المفضلون” لتركيا ودول الخليج.
ليس هذا المفكر العربي اليساري، الذي يعمل في التدريس في كلية جامعة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية، معجباً بالهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط. لكنه يحتقر صراحة “الإدانة غير المحسوبة” للولايات المتحدة من جهة اليسار المناهض للإمبريالية، في بريطانيا وخارجها، والذي لا يعترض مطلقاً على الدعم الروسي والإيراني الأكثر جوهرية بكثير للأسد.
في مصر في العام 2011، واجهت المعارضة اليسارية الصغيرة ما يصفه أشقر بلا تردد بأنه اثنتين من القوى المنافسة المعادية للثورة -الجيش وجماعة الإخوان المسلمين. وحتى بعد سقوط حسني مبارك، ظل الجيش المصري هو “صانع الملوك النهائي”، والذي أطاح في نهاية المطاف بمحمد مرسي المنتخب ديمقراطياً، الذي شكل الوجه غير البارع للإسلام السياسي الذي استسلم لإغراء السلطة. وقد دعم ملايين المصريين الانقلاب الذي قام به عبد الفتاح السيسي الذي يحكم الآن أكبر دولة عربية بولاية مواجهة “الإرهاب” -الذريعة الأسهل لكل استبدادي.
يكتب أشقر: “عدم قدرة التقدميين على رسم مسار مستقل ضد كلا جناحي الثورة المضادة، وعدم استطاعة أي منهما العودة إلى سرج الحصان، بينما يحاول إسقاط الآخر عن السرج، أثبتت أنها كارثية”. وكانت الحصيلة هي المذابح، والمحاكمات الجماعية وأحكام الإعدام، بينما تأخذ المشاريع الفرعونية صدارة المشهد في موجة محمومة من السياسات الاقتصادية النيو-ليبرالية.
لا يستبعد أشقر، في مزاج تأملي استعادي، قيام تحالفات تكتيكية مع “حلفاء غير محتملين”، لكنه يصر على أنه على الرغم من أن التقدميين والرجعيين يمكنهم أن “يَضربوا معاً”، فإن عليهم “المسير كل على حِدة”. والمفتاح هو “الاستقلال الحازم”.
استعار أشقر عنوانه من أنتونيو غرامشي، الماركسي الإيطالي الذي لاحظ انتشار “أعراض مرضية” في الفترة الفاصلة بين موت نظام قديم وميلاد نظام جديد. وهذه العدسة مفيدة لدى مشاهدة فترة قاتمة -ولو أنه يجدر تذكر أن الفترة الفاصلة ربما تستمر لفترة طويلة. وكان غرامشي قد كتب أيضاً أفكاره الشهيرة عن “تشاؤم الفكر” و”تشاؤم الإرادة” -وهو تمييز يمكن أن يعزز المعنويات الضعيفة في هذه الآونة، وأن يولد الأمل بقدوم أوقات أفضل.
إيان بلاك
صحيفة الغد