من يقرأ الصحف يؤمن أن تونس، هذه البلاد الصغيرة التي أشعلت “الربيع العربي”، هي الدولة الوحيدة التي ما زالت في طريقها الواضح نحو الديمقراطية. ويعود الفضل لذلك إلى حد كبير إلى الطبيعة التوافقية التي تتمتع بها «حركة النهضة» الإسلامية الرائدة في البلاد. وثمة حقيقة في هذا القول. ففي اللحظات المهمة من التحول الديمقراطي، ميّزت «حركة النهضة» نفسها عن سائر الأحزاب المشتقة من جماعة «الإخوان المسلمين» – حيث لـ «النهضة» جذور في هذه «الجماعة» – من خلال تقديم تنازلات إلى معارضيها العلمانيين من أجل المحافظة على الاستقرار، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك وتخلت عن السلطة السياسية، التي حصلت عليها في انتخابات حرة ونزيهة، لصالح حكومة تكنوقراطية، وهي خطوة لم يسبق لها مثيل لحزب إسلامي. ولعل «حركة النهضة» تدخل التاريخ مجدداً في الوقت الحالي.
في أواخر أيار/مايو، اجتمع أكثر من ألف عضو من «حركة النهضة» في مدينة “الحمامات” التونسية السياحية بمناسبة انعقاد المؤتمر العاشر للحزب. وناقش المندوبون سبعة خطوات وصوتوا عليها، بدءاً من إجراءات «الحركة» الداخلية وانتهاءاً ببرامجها السياسية والاقتصادية. ويمكن القول إن أهم نتائج المؤتمر، التي احتلت فيما بعد عناوين الصحف الدولية، هي تبني اقتراح من شأنه أن يفصل بين النشاطات السياسية والدينية لـ «حركة النهضة». وفي الفترة التي سبقت التصويت الحاسم، أدلى زعيم «الحركة» راشد الغنوشي، البالغ من العمر أربعة وسبعين عاماً (والذي انتخبه الحزب من جديد رئيساً له)، بسلسلة من التصاريح أشار فيها إلى أن «حركة النهضة» على استعداد للتخلي عن “الإسلام السياسي” وتبني “الديمقراطية الإسلامية”.
وقد تُرجمت التصريحات وعملية التصويت بطرق مختلفة جداً ابتداءاً من إشارتها إلى ما سيحدث من التخلي الجذري عن «الحركة» الإسلامية ونهاية الإسلام السياسي في تونس وصولاً إلى كونها ذريعة بلاغية تهدف إلى تهدئة المخاوف الغربية في الوقت الذي تسعى «الحركة» من أجل تحقيق هدفها الطويل المدى المتمثّل بإقامة دولة إسلامية. وتبيّن قراءة متأنية لملاحظات الغنوشي والقرارات التي اتخذت في المؤتمر إلى أن الوضع أكثر تعقيداً. وعلى الرغم من أن السعي إلى الفصل بين المهمات الدينية والسياسية لـ «الحركة» الإسلامية هو أمر هام، إلا أنه من السابق لأوانه أن يبدأ المراقبون بنعي الإسلام السياسي في الدولة التي هي مهد “الربيع العربي”.
الديمقراطيون المسلمون
في مقابلة مع صحيفة “لوموند” الفرنسية اليومية في 19 أيار/مايو، أكّد الغنوشي أن «حركة النهضة»: “تتخلى عن الإسلام السياسي لتدخل الديمقراطية الإسلامية. نحن ديمقراطيون مسلمون ولم نعد نلجأ إلى ‘ الإسلام السياسي ‘ “. وعوضاً عن ذلك، “تستمد «حركة النهضة» نقاطها المرجعية من القيم الإسلامية والحضارية الحديثة، كون «الحركة» حزب مدني ديمقراطي”. ووصف الغنوشي «حركة النهضة» للمندوبين المجتمعين في مدينة “الحمامات”، على أنها “حزب وطني ديمقراطي مكرّس للإصلاح، ويقوم على مرجعية وطنية مستمدّة من القيم الإسلامية.”
ويعود التغيير في المصطلحات المعتمدة، جزئياً، إلى نهج التسويق المتبع. ففي مقابلته مع “لوموند” أشار الغنوشي إلى أن الجماعات العنيفة كتنظيم «القاعدة» وتنظيم «الدولة الإسلامية» قد استولت على مصطلح “الإسلام السياسي” ومنحته قطعاً دلالة سلبية. ومن خلال وصف أعضاء «الحركة» كـ “ديمقراطيين مسلمين”، تستطيع «النهضة» أن تميّز نفسها عن الجماعات العنيفة التي تُسمي نفسها أيضاً بالإسلامية. وقد تعود حملة تغيير الطابع اللفظي إلى طمأنة قُراء صحيفة “لوموند” إلى أن قضية «حركة النهضة» ليست مشابهة لتلك التي يتبناها المسؤولون عن الهجمات الإرهابية في باريس وبروكسل وغيرهما. ومع ذلك، تشير حِزم القروض السخية، التي أعلنت عنها فرنسا والاتحاد الأوروبي و”البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” حتى قبل صدور قرار «النهضة»، إلى أنه يجب على «الحركة» أن تكون أقل اهتماماً بكسب دعم الغرب وأكثر قلقاً من التونسيين العلمانيين الذين لا يزالون يشككون في أهداف «النهضة» الطويلة الأجل.
ومنذ اندلاع ما سُمّي بـ “الربيع العربي” في تونس منذ خمسة أعوام، غادر حوالى 6000 تونسي البلاد للانضمام إلى الجماعات الجهادية في العراق وليبيا وسوريا. ولاقت «حركة النهضة» موجة من الانتقادات العلنية العنيفة خلال فترة توليها الحكومة ما بين عامَي 2011 و2013، نظراً إلى ما اعتبره الكثيرون نهج التراخي في التعامل مع التطرف الإسلامي في الداخل. وبالتالي، يهدف الوسم الحالي، جزئياً، إلى إقناع الناخبين المحليين بأن الحزب الإسلامي الرئيسي في البلاد قد تبنّى موقفاً حازماً من التطرف. وفي هذا السياق، أخبر الغنوشي المندوبين إلى المؤتمر أن «حركة النهضة» تبقى الخيار الأمثل لمكافحة الإرهاب الداخلي لأنها رسمت “الخط الفاصل الواضح والحاسم بين المسلمين الديمقراطيين والحركات الإسلامية ذات النزعة العنيفة التي تنسب نفسها زوراً إلى الإسلام.”
ويعكس قرار التنصل من استخدام مصطلح “الإسلام السياسي” نزاعاً نظرياً، أي أن الإسلام السياسي المطبق في تونس لم يعد ضرورياً منذ أن حقق الهدف المرجو منه. وأكّد الغنوشي في مقابلته مع صحيفة “لوموند” أن الإسلام السياسي هو وليد اتجاهين إقليميين: الدكتاتورية والنهج العلماني المتطرف، أي النهج الفرنسي للعلمانية الذي لا يشجع التعبير عن الهوية الدينية، إن لم يجعله محظوراً، في الأماكن العامة. ونظراً إلى أن الانتفاضة التونسية [ساهمت في] ترسيخ الديمقراطية وفي التخلص من الدكتاتورية والعلمانية على حد سواء، “لم يعد هناك مبرر لتطبيق الإسلام السياسي في تونس”. وفي خطابه إلى مندوبي «حركة النهضة» ألمح الغنوشي أن الإسلام السياسي قد وصل إلى نهايته إذ قال إن «حركة النهضة» قد شهدت تطوراً إذ أنها تحولت من “حزب إيديولوجي يشارك في النضال من أجل استعادة الهوية، عندما كانت هوية البلاد في خطر، إلى حركة احتجاجية شاملة مناهضة لنظام استبدادي، وإلى حزب وطني ديمقراطي مكرّس للإصلاح.”
ويقلل الغنوشي من قيمة الجوانب الأساسية للإيديولوجية الإسلامية، إذ يصوّر «النهضة» على أنها أشبه بمنظمة للحقوق المدنية، تدافع بالنيابة عن المسلمين الذين لم يتمكنوا من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية لعقود من الزمن. وكان النظام السابق قد حظر «حركة النهضة» بزجّه المئات من أعضائها في السجون، وتم تعذيبهم أو نفيهم قسراً. وعلى هذا النحو، لطالما تضمّن مشروع «النهضة» الاجتماعي، من بين عناصر أخرى، النزعة إلى زيادة الاعتراف الديني والثقافي بأعضائها وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل عام. وسَعَت «النهضة» أيضاً، المتأثرة بالتنظيم العالمي لـ «الإخوان المسلمين»، إلى بناء دولة إسلامية مُسترشدة بـ “الشريعة”، يعيش في كنفها المسلمون المتدينون بحرية ويحققون العدالة الاجتماعية وما إلى ذلك.
ويبدو أن الانتفاضة التي اندلعت عام 2011 وازدهار «حركة النهضة» لاحقاً قد منحا «الحركة» فرصة ذهبية لتحقيق تطلّعاتها بعد عقود من القمع. إلا أن سرعان ما واجهت «النهضة» عقبات شتى. فعندما اقترحت الكتلة النيابية لـ «حركة النهضة» نصاً دستورياً من شأنه أن يجعل من الشريعة “مصدراً” للقوانين (البعض أرادها أن تكون “المصدر”)، فإن المعارضة القوية للأحزاب العلمانية قد أجبرت الكتلة على سحب الاقتراح. وأعاد الغنوشي طمأنة مؤيديه بأن «الحركة» يمكن أن تبقى متمسّكة بهويتها الإسلامية لأن الإسلام السياسي يهدف في جوهره إلى تعزيز أهداف الشريعة الأوسع نطاقاً، كالعدالة والحرية، بدلاً من الأحكام المحددة الواردة في القرآن أو السنة. وقال إنه من الممكن أيضاً أن يشير إلى مواد في الدستور الجديد تؤكد على أن الإسلام هو “دين الدولة” وتُلزم الدولة بإضفاء “هوية عربية إسلامية” على شبابها. وكشفت المقابلة عمّا تقترحه بشأن الالتزامات الإيديولوجية التي يحتفظ بها العديد من أعضاء «النهضة»، كما تناولت قدرة «النهضة» على مجاراة الضوابط السياسية.
ولكن أصبح من الصعب على «النهضة» أن تدعي النجاح بعدما رضخت لضغط الرأي العام وتنحّت [عن السلطة] عام 2013 بعدما أجمع الكثيرون على أنها لم تحسّن إدارة الحكومة. ولم يصبح هذا الأمر ممكناً حتى بعد الانتخابات التشريعية عام 2014، التي صوت خلالها 70 في المائة من الناخبين لأحزاب أخرى غير «حركة النهضة» وخسرت «الحركة» الإسلامية 20 مقعداً في البرلمان، ولم تتمكن من أن تجاري حزب «نداء تونس» العلماني. وقد تبرر هذه النكسات سبب استمرار الغنوشي في التشديد على فكرتي الهوية والترويج للديمقراطية، وهما مسألتين من الممكن أن ترتكز حركته عليهما لتدعي أنها أحرزت نجاحاً في السنوات الخمس الماضية.
الفصل أو التخصص؟
حثت هزيمة «النهضة» في انتخابات عام 2014 على إجراء ما تحوّل إلى عامين تقريباً من المناقشات الداخلية حول التوجه المستقبلي للحركة. ويقال إن التأجيل المتكرر لمؤتمر الحزب نابع عن الصعوبات التي واجهها القادة في إقناع جمهوره أن «النهضة» يجب أن تكون حزباً سياسياً وعليها أن تترك علناً النشاطات الدينية إلى هيئة مستقلة، بل مرتبطة بها، إذا ادعت الحاجة. وفي النهاية، وعلى الرغم من أن المندوبين إلى المؤتمر رفضوا استخدام كلمة “فصل”، إلا أنهم وافقوا على مبدأ “التخصص” بين نشاطات «الحركة» الدينية والسياسية. وهكذا، على سبيل المثال، لم يعد مسموحاً لقادة «النهضة» نشر أفكارهم في الجوامع أو تولّي مناصب قيادية في الجمعيات الدينية. وكما شرح الغنوشي في “لوموند”، “علينا أن نحدد الفارق بين النشاطات السياسية والدينية. فالجامع ليس ميداناً للنشاط السياسي.”
ويبقى السؤال مطروحاً: أين سترسم «الحركة» الحدود بين الحياة العامة والسياسة والدين؟ وتعكس مثل هذه الخطوات الاعتبارات السياسية بشكل جزئي. وقال الغنوشي لـ “لوموند” إن «النهضة» تريد حزباً يتحدث عن المشاكل اليومية المتعلقة بحياة العائلات والأفراد ولا تريد حزباً يتحدث (للناخبين) عن يوم القيامة والجنّة وما إلى ذلك. وكأنه أراد أن يشرح ما الذي كان يقصده، كرّس الجزء الثاني من كلمته أمام المؤتمر لوضع الخطوط العريضة لسلسلة من الإصلاحات تهدف إلى محاربة الفساد، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتقليص البطالة، وتحسين ظروف العيش للشباب في البلاد، وجميعها أهداف لطالما اعتبرها التونسيون من أبرز أولويات الأمة. وفي ظل تحديد موعد الانتخابات المحلية المقبلة في آذار/مارس 2017 والانتخابات النيابية التي ستليها عام 2019، تعلم «حركة النهضة» أن عليها توسيع قاعدة دعمها إذا أرادت أن تعوّض عن هزيمتها في عام 2014. وأياً كان المحفّز الذي يقود التحول الذي تشهده «الحركة» حالياً، يشكل التركيز على “المشاكل اليومية” للحملة الانتخابية نهجاً سياسياً سديداً.
ومن السابق لأوانه معرفة ما إذا سيكون للقرار المتشدد نسبياً، والذي يقضي بتخلي الأعضاء الذين يبشرون في الجوامع عن السياسة، تبعات تؤدي إلى اتخاذ خطوة أكثر إثارة لفصل الدين عن السياسة في تونس. وبالفعل، قال الغنوشي لمندوبي الحزب إلى المؤتمر “إننا ملتزمون بإبعاد الدين عن الصراعات والنزاعات السياسية”، علماً أنه حرص على التشديد على أن فصل الدين عن السياسة لا ينبغي أن يُساوى مع فصل الدين عن الحياة العامة. وأضاف: “يفاجئنا إصرار البعض على استبعاد الدين عن الحياة العامة”.
ويطرح هذا الأمر سؤالاً عمّا سيحصل إذا ما تمحورت النزاعات السياسية حول مكانة الدين في الحياة العامة. أو بشكل أدق، يبقى السؤال مطروحاً: أين ستضع «الحركة» الحدود بين الحياة العامة والسياسة والدين؟ وكان الغنوشي قد أشار في مقابلته مع صحيفة “لوموند” إلى أنه “يجب عدم السماح للقانون [التونسي] أو للدين التدخل في الحياة الخاصة للناس. وفي النطاق العام، يعتبر القانون مطبقاً. أما على النطاق الخاص، فهذه حرية شخصية”. فإذا كان الدين، كما شدد في شرحه لمندوبي «النهضة» في المؤتمر، يهدف إلى توجيه الحياة العامة، وأن هذا النطاق العام نفسه يجب أن يسوده القانون، فإن تصاريح الغنوشي تطرح بالتالي فكرة توثيق العلاقة بين الدين والقانون إلى مدى يفوق ذلك الذي من المرجح أن يقبل به خصومه العلمانيين.
ما هي الخطوة التالية؟
في النهاية، قد تعتمد درجة تغيير مؤتمر «النهضة» للساحة السياسية في تونس على مدى تغيّر «النهضة» في كيانها. وقد شبّه البعض ما يحدث في تونس بالتجربة التي عاشتها تركيا في أوائل العقد الأول من هذا القرن، عندما قام «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي بإعادة هيكلة نفسه ليصبح حزباً محافظاً اجتماعياً وألقى الضوء على برنامجه الاقتصادي في محاولة لتوسيع قاعدة دعمه. ولعل «النهضة» قد تأثرت بـ «حزب العدالة والتنمية»، إلا أنه يمكن القول أن النموذج الأكثر وضوحاً على ذلك اليوم هو المغرب، حيث يقوم حزب إسلامي له جذور في جماعة «الإخوان المسلمين» بسن تشريعات في البرلمان وحتى أنه يتولى رئاسة الوزراء، إلا أنه يترك الأنشطة الدينية للمنظمة التي يعتبرها شقيقة له في المجتمع المدني. وسواء أكانت «النهضة» ستغير هيكليتها الداخلية، ومدى تطبيقها للقوانين المسببة للخلافات، كالأحكام المتعلقة بالأئمة المثيرين للجدل أو الاقتراح الأخير الذي من شأنه أن ينزع بصمة الدين عن قوانين الوراثة السائدة في البلاد، وإلى أي مدى ستتمحور حملات «الحركة» الانتخابية في الدورات الانتخابية المقبلة على مواضيع ذات توجه ديني، فهذه جميعها أمور ستمنح المراقبين صورة واضحة المعالم عن خطط «النهضة» على المدى البعيد وستزودهم بالمزيد من الذخيرة [لإشعال] النقاش المتعلق بتطور الإسلام السياسي المستمر في تونس وفي الشرق الأوسط الأوسع.
ساره فوير
معهد واشنطن